كتاب وآراء

الخطاب الملكي في النظام السياسي المغربي

البشير الحداد الكبير، دكتور في القانون العام والعلوم السياسية 

 

يحتل الخطاب الملكي مكانة سامية في النظام السياسي المغربي، ويعتبر من الآليات المهمة التي تعتمد عليها المؤسسة الملكية في طريقة إشتغالها.

لقد عملت المؤسسة الملكية عبر التاريخ على ترسيخ آلية توجيه الخطاب، فإذا عدنا لسنوات الحماية نجد أن جلالة المغفور له بإذن الله محمد الخامس طيب الله ثراه، كان قد وجه خطابا  من مدينة طنجة بتاريخ 9 أبريل 1947، هذا الخطاب الذي زاد من حماس الحركة الوطنية وجل المغاربة من أجل الكفاح للحصول على الإستقلال، خطاب توحيد صفوف المغاربة.

إن آلية توجيه خطاب للأمة المغربية، لم تتم بطريقة اعتباطية، بل اختارت المؤسسة الملكية التوقيت والمناسبات لإستعمالها، وكما يقول الدكتور المنتصر السويني في مقاله المعنون بالمؤسسة الملكية ورسائل خطاب العرش” أن الإحتفال بعيد العرش وإن كان قد بدأ فعليا منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أنه لم يتم ربط عيد العرش بالخطاب الملكي إلا بتاريخ 18 نونبر 18 1952.

بعد حصول المغرب على الإستقلال، تم تدشين العهد الدستوري أو المرحلة الدستورية حيث انتقلنا إلى الملكية الدستورية منذ أول دستور للمملكة وهو دستور 1962، حيث عمل المشرع الدستوري آنذاك من خلال الفصل الثامن والعشرون على التأكيد على آلية توجيه الخطاب الملكي، وهو نفس الأمر الذي سارت عليه جل الدساتير المتعاقبة 1970-1972-1992-1996، وأخيرا دستور 2011، من خلال الفصل 52، فإذا عدنا لجل هذه الدساتير، نجد فقط المؤسسة الملكية من تملك هذه الآلية بالمقارنة مع باقي المؤسسات الدستورية كالحكومة والبرلمان.

إن آليه توجيه الخطاب الملكي تم اختيار التوقيت المناسب لإستخدامها، عبر المناسبات الوطنية كعيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب(بعد بلاغ الديوان الملكي سنة 2023 لم يعد جلالة الملك حفظه الله ورعاه يوجه خطابا بتاريخ 20 غشت)، ثم افتتاح البرلمان بموجب الفصل 65 من الدستور أي يوم الجمعة الثاني من شهر أكتوبر من كل سنة، وأخيرا ذكرى المسيرة الخضراء.

إن الخطب الملكية السامية تختلف من ملك إلى ملك آخر، فخطب جلالة المغفور له بإذن الله الملك محمد الخامس ليست هي نفس خطب جلالة المغفور له بإذن الله الملك الحسن الثاني، نفس الشيء بالنسبة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، الذي عمل على تحديث وتحيين الخطاب الملكي بأسلوب يتماشى مع الألفية الثالثة.

إن الخطاب الملكي يجعل من الملكية المغربية، ملكية متحركة متكلمة، وهذا يتماشى مع ما قاله جلالة المغفور له بإذن الله الملك محمد الخامس نور الله ضريحه وخلّد في الصالحات ذكره، بأن العرش ليس كرسيا فارغا.

إن الخطاب الملكي في العهد الجديد هو خطاب القول والعمل، خطاب المشاريع والبرامج، خطاب يرسم خارطة الطريق لمختلف المتدخلين في الفعل العمومي، خطاب يحدد معالم السياسة العامة للدولة تماشيا مع الفصل 49 من الدستور الجديد، خطاب تقييم السياسات العمومية والقطاعية الحكومية، فإذا عدنا مثلا للخطاب الملكي السامي بتاريخ 14 أكتوبر 2016 بمناسبة افتتاح البرلمان، كان خطابا تقييميا للعمل الحكومي والإداري بالمغرب، كما أن الخطب الملكية في العهد الجديد هي خطب قصيرة من الناحية الزمنية لكن ذات ثقل مهم، خطب واضحة بلغة سهلة ودقيقة، خطب تجمع بين الموضوعية والشفافية وتقييم الواقع وإعطاء الحلول الممكنة، بمعنى خطب ملكية ذات التخطيط الإستراتيجي.

فإذا عدنا لعيد العرش، نجد بأن جلالة الملك من خلال توجيهه خطابا ساميا كل سنة، فهو يشتغل تحت المظلة الدستورية(الفصل 52) أولا كما أكد على ذلك الدكتور المنتصر السويني، كما أن جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره انتقل بعيد العرش من ذلك الطابع التاريخي والديني(رابطة البيعة ) والإحتفالي، إلى الطابع التعاقدي بين العرش والشعب، فجلالة الملك حينما يوجه خطابه السامي في عيد العرش فهو يقوم بتحيين الأجندة الملكية وإدخال المشاريع والبرامج الجديدة التي تخدم المصالح العليا للوطن، نفس الشيء بالنسبة لخطاب افتتاح البرلمان فجلالة الملك يدشن الدخول السياسي من خلال توجيه العمل البرلماني، نفس الشيء بالنسبة لخطاب المسيرة الخضراء الذي يحدد فيه جلالة الملك تطور قضية الصحراء المغربية من خلال آخر المستجدات المطروحة على الساحة الوطنية والدولية.

إن توجيه الخطاب الملكي يحتل مرتبة الريادة في الزمن السياسي المغربي.

إن توجيه الخطاب الملكي لا يقتصر فقط على المناسبات الوطنية، بل حتى في تدبير الأزمات، فإذا عدنا لسنة 2011، وبعد انتشار موجة الإحتجاجات في الدول العربية والإسلامية، تدخلت المؤسسة الملكية بثقلها ووزنها الدستوري والتاريخي، وقامت بتوجيه خطاب تاريخي (9 مارس 2011) تُوج بتدشين لعهد دستوري جديد، تجاوزت نسبة الإستفتاء بنعم 98%، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة الخطاب الملكي السامي عند المغاربة، ومدى تعلق الشعب بالعرش العلوي المجيد، فالعلاقة التي تربط المغاربة بملكهم، ليست مجرد علاقة حاكم بمواطنيه، بل هي علاقة أبوية، فجلالة الملك هو الأب الروحي لجميع المغاربة، وفي جائحة كورونا كان جلالة الملك قد أكد بأنه يهتم بصحة المواطنين مثلما يهتم بصحة أبناءه وأسرته، وبالتالي فهي علاقة أبوية امتدت أكثر من 12 قرنا، جمعت بين سلاطين المغرب والمغاربة، وقد لاحظنا أيضا في جائحة كورونا كيف أن الخطاب الملكي السامي في تلك الفترة كان مختلفا عن باقي رؤساء دول العالم، فالعديد من رؤساء الدول، اختاروا خطاب التخويف والتهويل مع شعوبهم، في حين أن جلالة الملك كانت خطاباته كلها إطمئنان وأمل في تخطي الجائحة وهذا ما تم بالفعل، حتى في فاجعة زلزال الحوز، لم يلجأ جلالة الملك إلى آلية توجيه الخطاب بل فضل الإشتغال بآلية جلسات العمل وأعطت ثمارها.

ما يميز دستور 2011 أنه كرس لنا مفهوم الملكية الدستورية التنفيذية، بإعتبار أن جلالة الملك هو من يترأس السلطة التنفيذية التي تتكون من الحكومة أيضا، فجلالة الملك هو من يسهر على وضع المشاريع والبرامج، كما يسهر على ضمان تمويلها، لأن أي مشروع بدون موارد مالية يبقى عديم الجدوى، وهذا ما أكد عليه جلالة الملك حفظه الله ورعاه في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2019 حيث أكد بأنه مبلغ صواب القرارات المتخذة والمشاريع المبرمجة فإن تنفيذها يبقى رهينا بمدى توفر الموارد المالية الكافية، وهذا ما يميز المؤسسة الملكية في خطبها السامية، أنها تقوم بتقييم الفعل العمومي السابق، وتقدم البديل عبر مشاريع جديدة تحدد لها إطارا زمنيا في تنفيذها وتحدد أهدافها وترصد لها الموارد الضرورية لتنفيذها على أرض الواقع، فالملكية في المغرب هي ملكية القول والفعل، حيث أنه طيلة مدة حكم جلالة الملك حفظه الله ورعاه نلاحظ أن جل المشاريع التي أشرف عليها جلالته، تم تنفيذها، فالملكية في المغرب تقوم بالتتبع المستمر لمختلف المشاريع.

إن قيادة الديمقراطيات الحديثة كما يؤكد على ذلك الدكتور المنتصر السويني لا يمكن أن تتم إلا من خلال التواصل وكلام وشرح وتوضيح، وهذا ما نلاحظه من خلال الخطب الملكية السامية، فآلية توجيه الخطاب  كما يقول ميشيل دوبري:” الخطابات المباشرة التي توجهها مؤسسة الرئاسة الفرنسية إلى الرأي العام الوطني تستهدف تأكيد وترسيخ الدور الرئيسي والمحوري لمؤسسة رئاسة الجمهورية أمام باقي المؤسسات الأخرى، كما تستهدف التأكيد على أنها المؤسسة الوحيدة المكفلة بتحديد وقيادة السياسة الوطنية العامة للبلد”، فالخطاب الملكي السامي يؤكد سمو المؤسسة الملكية على باقي المؤسسات، فالملكية هي من صنعت المغرب، والملكية تحتل المرتبة الأولى في النظام السياسي المغربي، فجلالة الملك هو أمير المؤمنين(الفصل 41) وهو رئيس الدولة(الفصل 42).

إن الخطب الملكية كما قلنا هي خطب موضوعية وواقعية، تقوم بتقييم الفعل العمومي، فحينما تم الإنتقال من الجهوية الناشئة إلى الجهوية المتقدمة، تم ذلك بخطاب ملكي سامي وتم تعيين لجنة بهذا الخصوص سنة 2010، وبخصوص وضع دستور 2011 تم تشكيل لجنة بشأنه، كما أنه حينما تم الإعلان عن فشل النموذج التنموي السابق في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2017، تم الإعلان عن تشكيل لجنة في خطاب العرش وثورة الملك والشعب سنة 2019، وبخصوص مراجعة مدونة الأسرة تم الإعلان عن ذلك في خطاب العرش 2022، وتم التأكيد على ذلك في الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة سنة 2023 قصد تشكل لجنة مكلفة بالمراجعة، وتم التأكيد على هذه الرسالة في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2023، وبخصوص تشغيل الشباب، فحث جلالة الملك على العناية بالتكوين المهني في الخطب السامية سنة 2018، وتم تتويج ذلك بإطلاق ورش ملكي كبير وهو مدن المهن والكفاءات، بالإضافة إلى حث القطاع البنكي على تشجيع الشباب على إحداث المقاولات من خلال خطاب افتتاح البرلمان سنة 2019، وبخصوص إشكالية الجفاف نلاحظ أن المؤسسة الملكية تدخلت عبر جلسات العمل وتوجيه الخطب السامية، خطاب افتتاح البرلمان 2022 وخطاب العرش 2024 نموذجين.

إن الخطاب الملكي السامي يكون كل سنة بمعنى هناك تعاقد مستمر بين العرش العلوي المجيد والشعب المغربي، عكس الأحزاب السياسية التي تتواصل مع المواطنات والمواطنين فقط في فترة الإنتخابات، وعليه يتفوق زمن الخطب الملكية السامية على زمن الوعود الإنتخابية، فالخطب الملكية السامية موجهة لكافة الشعب المغربي وكل سنة، عكس الوعود الإنتخابية موجهة فقط للشعب الإنتخابي، فهي لحظية فقط كل خمس سنوات، حيث أن جلالة الملك نصره الله وأيده في خطاب العرش سنة 2017 انتقد الأحزاب السياسية وقال:”…إن بعض الأحزاب تعتقد أن عملها يقتصر فقط على عقد مؤتمراتها، واجتماع مكاتبها السياسية ولجانها التنفيذية، أو خلال الحملات الانتخابية.

أما عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع المواطنين، وحل مشاكلهم، فلا دور ولا وجود لها. وهذا شيئ غير مقبول، من هيآت مهمتها تمثيل وتأطير المواطنين، وخدمة مصالحهم…”.

إن الخطب الملكية في العهد الجديد تحت القيادة الرشيدة والمتبصرة للسدة العالية بالله صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، هي خطب ذات اقتصاد لغوي وزماني لكن حمولتها قوية ولها الكثير من الدلالات، وهذا ينطبق مع ما قاله أحد مُنظري العقد الإجتماعي جوك جاك روسو:” الذين يعرفون قليلا يتكلمون كثيرا، والذين يعرفون كثيرا يتكلمون قليلا”، فالخطاب المحمدي يعتبر مرجعا في علم السياسة ونموذجا يحتذى به في التواصل السياسي، فالمؤسسة الملكية بالمغرب ظلت عبر قرون مضت متميزة، لكونها تمزج بين الطابع التقليدي الذي رافق نشأة الدولة المغربية، مع الانفتاح على عالم اليوم، وظلت متميزة أيضا لكون أسلوب الخطب السامية عالي المستوى وهذا ما يفتقده الزعماء السياسيون في مختلف دول العالم،الذين تغلب عليهم الشعبوية، فالمؤسسة الملكية فضلت الحفاظ على طابعها التقليدي في هذا المجال، فهي لم تنفتح في وسائل الإجتماعي، وهذه نقطة إيجابية جدا، عكس جل رؤساء دول العالم الذين لديهم حسابات رسمية في وسائل التواصل الاجتماعي مما جعل بعضا منهم بعيدين كل البعد عن الاحترافية واللغة الدبلوماسية الدقيقة، والبلاغة في اللغة، وقريبين من الشعبوية.

وسنختم بمقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش سنة 2015، حيث قال جلالة الملك أطال الله في عمره وبارك في صحته:”…فطموحنا من أجل إسعاد شعبنا، ليس له حدود. فكل ما تعيشونه يهمني: ما يصيبكم يمسني، وما يسركم يسعدني. وما يشغلكم، أضعه دائما في مقدمة انشغالاتي…”.

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار