كتاب وآراء

-نطفة …فعلقة …ففضيحة… مالكة حبرشيد المغرب

مالكة حبرشيد المغرب – جريدة البديل السياسي 


أناالآن في غرفة قاتمة ..صامتة ، أمعن النظر في الظلام ، أحاول استدراجه ليبادلني الحوار ؛ عله يخفف شيئا مما بي ، أو يجد معي حلا ، لكل التساؤلات التي أثقلت رأسي ، منذ نعومتي.أتقلب على أشواك التفاصيل الدقيقة ، عابرا دهاليز تنفتح على أنفاق .. أضيع فيها كلما حاولت تحديد وجهتي وانتمائي .

أجاهد ذاكرتي ..منذ متى وأنا هنا . ربما مذ فتحت عيني على هذا العالم المترامي في قسوته،الشرس في احتوائه ،الظالم في أحكامه .

لم أشعر يوما بانتماء حقيقي إليه ، ولا شعرت بأن هناك ما يربطني به ..
منذ متى وأنا هنا . منذ تلك الفجيعة ؟لا بل قبلها حين كنت نطفة في رحم أعياه الانتفاض ؛ كي يلفظني ،لكن الأقدار شاءت أن أستمر وأنمو ؛لأصيرنطفة…فعلقة ، فجنينا ،ففضيحة

.كانت غربتي كبيرة ، مذ خرجت إلى هذا العالم.

أذكر أني كنت أستجدي الرحمة والرأفة والحنان ، بأنين وصرخات متتالية ؛ كي ألقى شيئا من الاهتمام ،وأستمد بعضا من القوة .. جرعة حليب كانت تكفي، كي أغلق فمي ، أنزوي كأي شيء لا حاجة للآخرين به ، وبوجوده.مرت الأيام متشابهة ، بعد رحيل البطن التي حملت كتلة الحزن، التي حلت ؛ كي تزيد من كآبة وعبوس الكون.

أتنقل من يد إلى يد : منها التي تحنو ، ومنها التي كانت تزجرني ؛ كأنما تحملني ذنب مجيئي ، إلى هذا العالم ، وأنا ضيف غير مرغوب به..كان بكائي موالا لا ينتهي ؛ مما جعل حتى القلوب الرؤوفة تمل وجودي ، وتفكر في التخلص مني ، وهي تصرخ : اسكت …اخرس ايها اللقيط—يا ولد الحرام — .لقب سمعته مذ وعيت الحياة ، لكني لم أستوعب معناه ، إلا بعد ما بلغ الجرح مداه ،وأنا بين أحضان امرأة ، كانت تقول أنها خالتي .

حضرت سيدة سمينة ، أنيقة، متبرجة ، بنظارات كبيرة سوداء . دار بينها وبين الخالة حوار طويل، في النهاية قالت الخالة:هذه أمك الجديدة …يجب أن تذهب معها.
أخبروني من قبل ،حين كنت أبحث عنها بدموعي ، أن أمي سافرت بعدما وضعتني ، في رحلة طويلة الى الله ،ولن تعود:كيف عادت …؟

هل كانت معتقلة ، ثم أطلقت السماء سراحها ؛ لتحررني أيضا من براثن القسوة ؟رغم صغري إلا أني فهمت شيئا ، من حوار العيون الذي دار في حضرتي . القسوة تجعلك تكبر بسرعة ؛ لتنفذ الأوامر قبل أن تعاقب . أدركت أنه علي أن أرحل من هنا ، مع هذه السيدة الغريبة ، التي كانت توزع الابتسامات ، في كل الجهات.تمنيت من كل أعماقي أن تكون أمي ؛ علها تغذي ، ولو قليلا من الجوع المزمن بأعماقي ، للحب والحنان.

لكني لم أرتح لنظراتها ، وابتساماتها .. وحركاتها.ركبت السيارة إلى جانبها . كانت تنظر إليّ وتبتسم . شعرت للحظات بالأمان والطمانينة . لم أرفع بصري عنها.كنت أود لو اعتقلت تلك النظرات والابتسامات ؛ كي لا يفارقني الشعورالجميل الذي انتابني تلك اللحظة.
وصلنا البيت الكبير ، المحاط بحديقة جميلة . لحظات من الفرحة النادرة ،حلقت فيها الابتسامات عاليا ؛ حين أخذتني السيدة زينب بين أحضانها ، تداعب الحزن الذي نما بداخلي.كنت أسترجع ملامح الأطفال ، شغبهم ، دلعهم ؛ كما بدأت أتخلص من الصمت والانزواء ، وسط اللعب ،التي حركت فيّ حب الحياة ، وحب الاستطلاع.كبرتُ ، كبرتْ اللعب ، شاخت ، فقدت جمالها ، تقلصت الابتسامة؛حين ذكرتني السيدة زينب ، التي رفضت منذ البداية أن أناديها ماما ، وانتهت إلى زجري وضربي ، على أي تصرف يصدر عني . استرجعت لقبي : اللقيط …الغبي المنبوذ.استعاد الخوف مكانه بين ضلوعي ، استوطن الرعب أرجائي . عدت أبحث في الظلمات عن صديقي القديم ، نديمي الذي كان دائما يجالسني ويحاورني ، عدت إلى الصمت والانزواء،في الركن البعيد ، من الصالةالفخمة ، كان مكاني ، في انتظار الأوامر التي لا تنتهي ؛ لأن البيت لا يخلولليلة من الضيوف، الذين يحضرون للعب القمار ، والشرب ، وتعاطي كل ألوان الرذيلة.بلغت العاشرة من عمري ، تعرفت على كل الزوار والضيوف ، كما خبرت الطريق؛لاقتناء كل ما تحتاجه السيدة ، من أكل ، وشرب ، وخمر ، وحشيش …و…و…. ، كما كنت ألهث ، لنداء من تأخرت عن الموعد ؛ لأن هناك من ينتظرها.فكرت مرارًا في الهروب ؛

كي أنأى عن هذه الوساخة ، لكن بدا أني نتاجها ،لذلك صعب علي التخلص منها ، كما صعب تلمس طريق العودة إلى خالتي ، التي رمتني بكل بساطة ، كأي شيء انتهت صلاحيته.
استخدمتني السيدة شغالا ، وطباخا ، بستانيا ،وقوادا ، ولمّا أتجاوز الرابعة عشر من عمري.لم ألج روضا ولا حضانة ولا مدرسة ، ولا تلقيت تربية غير ما شربتني السيدة زينب من ذل وهوان ؛ سيتناسل ويتكاثر مع الأيام.كنت كلما جن الليل ، وأطبقت الغربة أتساءل : أين أمي ..؟

أين أبي ؟

أين أهلي ؟

وتبقى الأسئلة دائما معلقة بلا جواب.
لم أستشعر يوما رابطا نحو إنسان أو مكان . كل الوجوه والملامح ، كانت ترمقني بنفس النظرة …وأنا صغير : كانت شفقة . حين كبرت صارت : اشمئزازا .ما ذنبي ؟ أنا لم أختر أمي ولا أبي ، ولا حددت تاريخ وصولي إلى هذا العالم ، ولا رافقت السيدة زينب باختياري !كنت تجاوزت الخامسة عشرة من عمري ، حين حضر رجل غريب إلى الدار . لم أره من قبل . استقبله الجميع بالبشاشة والترحاب الكبيرين ، خصوصا السيدة ،التي كانت فرحة زيادة عما تعودت منها . جلس الرجل ، أطلق نجم الجهل والخوف والغموض حوله .. بعدما أكل وشرب ، نادتني السيدة مبتسمة على غيرعادتها، وهي تتغنج:اسمع يا خالد هذا الرجل مهم جدا ، وكبير جدا ، وكريم جدا ،يمكن أن يسهل لنا أمورا كثيرة ، ويغدقنا بالهدايا إن نحن أرضيناه . لم أفهم كلامها

وتلميحاتها.دنت مني أكثر ، ضمتني إليها ،وهي تنقر أذني:اسمع يا ابني يا خالد ، أريدك أن تستحم ، وتغير ثيابك ؛ لتكون أبهى من القمر !مازلت لم أفهم شيئا . عادة كان اهتمامها بالفتيات اللواتي تصطادهن من المدينة ، ومن المناسبات كالأعراس والحفلات،تستدرجهن إلى البيت ، تغريهن ببعض الملابس والحلي المزيفة ؛ فيرقص الفقروالحرمان فرحا ، وهو لايدري أنه في طريقه إلى مذبحة الكرامة والكبرياء وعزةالنفس.رفعت عينيّ نحوها في دهشة واستغراب.أدركتْ أني لم أفهم بعدُ مرادها ، فحّتْ بكل وقاحة :هو يريدك أنت ، وسيدفع لك قدر ما تريد وتطلب ، وكلما احتجت شيئا ، سيلبي ، المهم أن ترضيه.لذعتني حرارة غريبة سرت في أوصالي ، نار تتسلقني ، دمي يختنق في عروقي . تصبب العرق من كلي.انسحبت من أمامها ، وأنا لا أصدق ما سمعت.أكانت تتكلم بجدية …؟

أكانت تقصد فعلا ، ما فهمت بعد عناء طويل ؟انزويت في غرفة صغيرة حقيرة بالحديقة ؛ حيث البقايا ، وأنا سواء . لم تترك لي فرصة استجماع ما تبعثرمني ، ولا التقاط أنفاسي ، بلها لحقت بي ، وهي تلوح بالنقود ، بحنكة قوادة :خذ ياخالد . كل هذا لك . وإن أرضيته ؛ سيعطيك أكثر وأكثر.كنت دائما أرى شابا واثنين بين الضيوف ، لكني لم أفهم يوما، أن هذا كان المبتغى من وجودهم ، لم تكن أعمارهم تتجاوز السادسة عشر ، وكنت أظن ، أنهم حين يختلون بالرجال في غرفهم ، إنما كان من أجل خدمتهم ، إحضار ما يحتاجون من طعام ، وصب ما يطلبون من خمر.اليوم فقط فهمت . اليوم فقط كرهت العالم ، بقدر ما كرهني ..حقدت على البشر ، بقدر ما اشمأزوا مني.

واليوم فقط قررت أن أختار دربي ، لوحدي ، ودون أن أستشير أحدا ، أو يتدخل في اختياري.صرخة منها أعادتني إلى مكاني:
ماذا تنتظر يا خالد ..أرى أنك لم تستعد بعد ؟لا أعرف ماذا دهاني ، كأن شخصا آخر تلبسني .أهمهم :حاضر .. سأجهز في الحال ، سأفعل كل ما يريد ويطلب ، سأجعله يعشقك ، ويعشق الدار ، ولن يبرحها أبدا .

نظرت إليّ باندهاش ؛ فلم يسبق أن كلمتها بهذه اللهجة.

خيم الليل : موسيقى .. رقص .. غناء .. خمر ..و..و…

هم الرجل بالوقوف .. أومأت لي بعينيها ؛ كي أرافقه.

ابتسمت لها ، اتجهت نحو المطبخ ، حملت بعض الفاكهة وقنينة ماء ، دخلت الغرفة .. كان الضيف هناك ، راح يتحرش بي ،وأنا أصب له الكاس تلوالأخرى ، تمدد على السرير ، ويداه تطلبني . لم يخجل من طفولتي ، ولا من شيبه ، ولا من أولاده الذين كان قبل قليل يتباهى بنجاحهم.

صببت كأسا أخرى ، وهو يستدعيني بيديه وعينيه وشفتيه. شعرت بشيء يصعد إلى رأسي ، أخرجت السكين من سروالي،طعنته في بطنه..في صدره..في كل جزءمن جسده . لم يصرخ .. كانت فقط أنات وآهات ، لم تبلغ البهو الكبير.طعنته مرات أخرى ، كنت أريد أن أقتص للطفولة التي اغتصبها الزمان ، وهذاالوحش ، وكل أمثاله.ناديت بتماسك أحسد عليه : سيدتي …سيدتي …لا أدري مابه.هرعت إليه ..ما إن دخلت الغرفة ، حتى انهالتْ عليها الطعنات،بنفس القوة

والشراسة….فقد كنت قوي البنية …والقهر علمني كيف ادافع عننفسي….تهالكت على الأرض ، أحاصر بنظراتي الجثتين ، والدماء التي لونت السجاد .أخرجت النقود التي سلمتني ، رميتها على وجهها الذي لم يشعرني يوما بالطمانينة ، ولا الأمان ولا الإنسانية.تناولت الهاتف من جيبها ، اتصلت بالشرطة.
أنا اليوم بين أربعة جدران ، بين رفاق الحزن والغربة والألم ، في بيت يطلقون عليه : إعادة التاهيل …أو دار الإصلاح..أعمارنا لاتتجاوز الثامنة عشر،على جبين كل واحد منا قصة ، كتبها القدر عند الولادة، أو ربما قبلا ..ها نحن نحاول التكيّف مع القسوة ، علّنا نستطيع يوما الاندماج في الغابة !

 

 

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار