جريدة البديل السياسي
مطر في مغازلة الروح
القاص عبد القادر بوراص
في زاوية غرفة طينية ضيقة عند طرف قصي من منزلها العتيق الذي طليت جدرانه بالجير الأبيض المصنوع محليا، وظلت رائحته تعم المكان رغم مضي وقت طويل على استعماله. كان سقف الغرفة خشبيا مغطى بأسعاف نخيل رصت بإتقان محكم فوق جذوع شجر متينة.
استلقت مريم على سرير حديدي قديم، تخللت بقع صدأ قوائمه الأربعة الصلبة، واندست في دثار صوفي أمازيغي خشن، عليه بقايا مرق وزيت زيتون. كانت تئن بصعوبة بصوتها المبحوح الخافت، ونظراتها الثاقبة تعكس حزنها العميق، ومع ذلك لم تفقد بريق عينيها الغائرتين. أخذت تستطلع كل أرجاء الغرفة قبل أن تستقر على الساحة الفسيحة التي كانت لوقت قريب مأوى لأهلها وأقاربها، حيث كانت تستقبلهم بترحاب زائد وحفاوة بلا حدود، واستعرضت لقطات خاطفة من شريط ذكرياتها وهي ترتاد فناء بيتها الرحب الذي غطت نصفه كرمة حبلى بعناقيد عنب ناضجة مختلفة ألوانها. كان يتحول خلال النهار إلى ملعب للأطفال يمارسون فيه أكثر من نوع رياضي، وفي المساء ملتقى عائلي للسمر والسهر إلى أوقات متأخرة من الليل، خاصة في فصل الصيف القائظ، حينئذ تنهدت متحسرة وهي تعيش وحدة موحشة وسكونا مخيفا كالمقابر.
هجرها معارفها وجيرانها واحدا تلو الآخر بعد أن أكدت التقارير الطبية أنها في مرحلة متقدمة من مرض السرطان ونسبة شفائها ضئيلة للغاية، وتركوها تعاني ألم الداء الخبيث وحرقة الوحدة القاتلة.
ذات ليلة شتاء باردة، انهمر المطر مدرارا كسياط يجلد سقف غرفتها بقوة ودون رحمة، وتسربت قطرات المزن عبر الشقوق والفجوات، وتدفقت فوق سريرها وبللت جسدها الهزيل الذي نخره المرض وحوله إلى هيكل عظمي يكسوه جلد منكمش جاف تخللته بقع بنية اللون، ففتحت عينيها مبتسمة وأخذت تغترف الماء بيديها وتقوم بغسل وجهها الذي خط الزمن فوقه خرائط من التجاعيد، ثم شرعت في مسح جميع أعضاء جسدها الواهن بماء المطر الطهور ولسانها يردد دعاء مهموسا لا تسمعه إلا هي. شعرت بدفء غريب يتسلل إلى قلبها، وقرأت بصوت متهدج سورة الفاتحة وما حفظته من آيات قليلة من الذكر الحكيم، ورفعت أصبعها عاليا إلى السماء مرددة الشهادتين قبل أن تستغرق في نوم أبدي مريح، وارتفعت روحها الطاهرة إلى السماء دون ضجيج ولا عويل، مخلفة وراء ظهرها دنيا فانية تحكي قصصا عاشت فيها أكثر مما تستحق من الضيق وشظف العيش والصبر…


تعليقات
0