مريم العذراء” عام 2018- حكاية مقتبسة من واقع الحياة.. بقلم الأستاذ جمال الغازي.
بقلم الأستاذ جمال الغازي.. جريدة البديل السياسي
في بلاد تطفو على بحر من الحرمان، حيث تراقص أقدام البشر فوق الرمال المتحركة للمعاناة، تنتشر حكاياتهم كطيف ضائع بين أزقة المدينة التي لا تعرف إلا الجوع والحلم المكسور.
كل منزل يحمل بين جدرانه قصة، وكل وجه يسرد فصول معاناة عميقة لا يسمعها أحد. هنا، تتشابك الأقدار في حلقة لا تنتهي من الصراع، وجوههم تضيء بنظرات مليئة بالصدق، لكن خلف تلك الوجوه تتناثر صور الأوجاع التي خاضوها. لا يدركهم سوى أولئك الذين أنصتوا لآهاتهم الصامتة، تلك الآهات التي تعلو مع الرياح الهائجة وتنخفض مع خفوت الأمل.
في هذا المكان الذي يعجز فيه الفجر عن إزالة غشاوة الليل، يعيشون كأنهم أبطال فوق مسرح مجهول، يرفعون الستار على قصصهم، يسيرون وسط الصعاب حالمين بشمس قد تشرق على ما تبقى من حياتهم. لا يزالون في أدوارهم المجهولة، يخطون في صمت شجاع، يوثقون أيامهم بدماء الجروح المفتوحة والقلوب المجروحة.
منهم من يواجه الأمواج بكل شجاعة، يرفع راياتهم وسط العواصف، ومنهم من يستسلم لقوة البحر الذي يجرهم نحو الأعماق، دون أن يسمع لهم صدى. وفي أحد الأيام، بينما كنت أتجول في عالم الأفكار الضبابية التي تغلفني، كانت عيني تلتقط في الزوايا حكاية غريبة. حكاية تَكررت بأسماء مختلفة، لكن المضمون ظل واحدا. حكاية تلك الفتاة، “مريم”؛ مريم الجمال الذي سُلب عنوة، مريم النقاء الذي لُوث بيد الجبروت، مريم التي تمزقت أوراق براءتها على أعتاب الذل.
حين التقيت بها لأول مرة، كانت كشعاع ضوء خافت وسط الليل الداكن، شابة في مقتبل العمر، في ريعان الشباب، تتراقص ملامحها بين البراءة والعذاب.
كانت، بكل بساطة، وردة برية في بداية إزهارها، لكنها تحمل داخلها بذورا من الجروح والآلام.
قد لا تكون تعرف كيف تُظهرها، لكن عينها كانت تروي حكاية أخرى. فقدرتها على التعبير عن نفسها كانت مهارة مفقودة، غير أن كلمات عينها كانت تتحدث بلغة غير مرئية ، لغة الدموع التي كُتِبت قبل أن تسقط على وجداني اللين الهين.
خطوت نحوها بهدوء، وبدأت أبحث عن مفاتيح تلك النظرات المشفرة، تلك التي كانت تحمل فيها سرا غامضا لم أكن أستطيع فك شفراته. اقتربت منها وقلت، على عجل وكأنني أبحث عن بوابة تفتح لي عالمها المخبأ: “ما اسمك، أيتها الجميلة؟”
رفعت رأسها ونظرت في عينيّ، كان صمتها يطول قبل أن تهمس، وكأنها تخرج الكلمات من أعماق البحر العميق: “مريم…” مضيت في حديثي بصوت هادئ ينبع من عمق القلب، صوت تتراقص فيه نغمات العطف والاحترام، صوت يُبعث في مسامات الروح، ويعكس صدقا يرنو إلى أفق الحقيقة.
كان صوتي كنسيم عليل، خاليا من الوعود الزائفة، خاليا من خبث الذئاب أو همجية الثيران التي تلهث في الساحات. كان صوتا يحمل في طياته تعاطفا نابضا بالأمل والحنان، محاولا أن يفك أسر حكايتها الصامتة. كانت مريم، تلك الفتاة السمراء التي تتمتع بجمال فطري ، قد انطبع في عينيها علامات الحياة القاسية.
عيناها الواسعتان كانتا تحملان ألما سحيقا لا يستطيع الكلمات وصفه، ونظرتها كانت كالمرآة، تعكس فيها كل حكايات الماضي البائس.
في تلك النظرات، كانت تعكس صورا من العذاب والسواد التي مرت بها، حكايات لم تُرو، وآلام لم تُنس. حين قرأت في عينيها مصداقية حديثي، أحسست بتوتر يخفف من ثقل كلماتها، فأخذت تفتح أبواب قلبها لي. همست بصوت مكسور: “يا سيدي، أنا في قاع أعماق الانهيار، أعيش أياما مظلمة قاتمة في العزلة وامكث في الظلام الحالك نهارا وليلا أبحث عن نور الراحة فلن اجده ، تعبت من هذه الحياة ، أتساءل كيف لي أن أواجه الواقع بعد هذه الصدمة التي لم أكن أتوقعها؟
كيف يمكن للروح أن تتأقلم مع فاجعة كهذه؟” كان حديثها ينساب كالعاصفة في الأفق، محملا بحبات المطر التي تتساقط على قلب متعب.
بدأت مريم تحكي عن طفولتها، عن أيام كانت سيدة البراءة والسعادة، حيث نشأت في حي شعبي مهمش، يحدّها ضفاف المدينة التي لا تعترف إلا بالألم والقهر. كانت طفلة مدللة، حبيبة قلب أمها الوحيدة، التي كانت تملأ البيت بحب لا يوصف، كانت مصدر سعادتها وأملها.
. ذلك البيت البسيط الذي سكنته مع أمها كان عالمهما الوحيد، قلعة من الحماية والأمان، تحرسهما من عواصف الحياة. لكن هذا البيت، رغم تواضعه، كان يحمل كل معاني الحب والدفء، وكان يبعث فيهما القوة لمواجهة الوحدة والفقر، لا يهمهما شيئا سوى ما يجمعهما من حب وطمأنينة.
البيت كان يتألف من طابقين، الأول مخصص للكراء، وكان مصدر رزقهما، والثاني كان مأوى لهما، يتنفسان فيه الحياة رغم كل التحديات والصعاب. …..يتبع
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار