بقلم رشيد اخراز- جريدة البديل السياسي
في زحمة الحياة وضجيجها، قد تمر على مسامعنا جملة: “تموت البيوت بموت الأب”، فنرددها بلا وعي، أو نعتبرها مجرد عبارة من عبارات الرثاء المتداولة. لكن الحقيقة أن هذه الكلمات تختزل تجربة إنسانية لا يعرف عمقها إلا من ذاق مرارة فقد الأب، ذلك الركن الذي يقوم عليه بناء الأسرة، والحائط الذي تستند إليه القلوب في مواجهة صعوبات الحياة.
الأب ليس مجرد معيل، بل هو الروح الخفية التي تبث الطمأنينة في أرجاء البيت. حضوره يعطي للأيام توازنها، وللأبناء قوتهم النفسية، وللأم سندها وشعورها بالأمان. وعندما يغيب، ولو كان الغياب أبدياً، يبدأ البيت في التصدع، ليس جدرانًا وأسقفًا، بل مشاعر وعلاقات، وأحيانًا حتى القيم والتقاليد التي كان الأب يحرص على تلقينها لأبنائه.
من فقد أباه يعرف كيف يتغير طعم المناسبات، كيف تصبح الأعياد بلا نكهة، وكيف تتحول طاولة الطعام إلى مكان ينقصه الأهم. يعرف كيف تتغير ملامح الحياة اليومية، وكيف يتسلل الحزن حتى إلى الأشياء الصغيرة، كصوت الباب الذي لم يعد يُفتح بنفس القوة، أو الكرسي الذي بقي شاغرًا مهما ازدحم المكان.
وما يزيد الوجع أن هذا الفقدان لا يُعوّض.
يمكن للأصدقاء أن يخففوا، وللأقارب أن يساندوا، لكن فراغ الأب يبقى فراغاً صامتاً عميقاً، لا يملؤه أحد. هو الشعور باليُتم الذي لا علاقة له بالعمر، فالابن يبقى صغيرًا أمام أبيه، حتى لو اشتعل رأسه شيبًا.
“تموت البيوت بموت الأب”… لأن الأب كان الحياة بحد ذاتها، كان الأمان في زمن الخوف، والقوة في زمن الضعف، والبوصلة التي توجه الأبناء نحو الطريق الصحيح. بفقده، يفقد البيت جزءًا من روحه، وتفقد العائلة قائدها وصوت الحكمة فيها.
إنها جملة لا يفهمها إلا من عايش ألم الفقد، وجرب أن يستيقظ في صباح لا يسمع فيه صوت أبيه، ولا يرى فيه ابتسامته، ولا يشعر بيده التي طالما أسندت الكتف وقت الحاجة
تعليقات
0