جريدة البديل السياسي |البديل الثقافي

بعزيمة لا تلين… عيسى المدغري، الإمام الستيني الذي نال شهادة الماستر في علوم القرآن بالناظور.

518549155_1398640181421469_3458328626599625147_n

 جريدة البديل السياسي   -بقلم : محمد الحدوشي .

في مشهد أكاديمي استثنائي، لا تُقاس فيه الأعمار بالسنين بل بالإرادة والعزم، احتضنت القاعة المخصصة للمناقشات بالكلية متعددة التخصصات بالناظور، يوم الإثنين 14 يوليوز 2025، لحظة فارقة في المسار العلمي لرجل ستيني جمع بين منبر المسجد ومنبر الجامعة، بين خشوع التلاوة وصرامة البحث، إنه الأستاذ والإمام عيسى المدغري، الذي ناقش رسالته لنيل شهادة الماستر في الدراسات القرآنية بالغرب الإسلامي – قضايا ومناهج، وسط أجواء مهيبة شهدها زملاؤه وأفراد أسرته ولفيف من الأساتذة الجامعيين.

عيسى المدغري، المزداد سنة 1967، وأستاذ مادة التربية الإسلامية يالثانوية الإعدادية الريف بالناظور، وخطيب مسجد الاميرة، أثبت من خلال هذا الإنجاز أن العلم لا يعرف حدًا زمنيًا، وأن السعي في دروب المعرفة لا يقف عند بوابات التقاعد أو رتابة العادة. بل هو سير لا يتوقف، وتحدٍّ لا يهاب السنّ.

اختار الطالب الباحث أن يغوص في بحر علوم القرآن، واضعًا نصب عينيه موضوعًا دقيقًا قلّ من تناوله بمثل هذا العمق، عنوانه: “توجيه المتشابه اللفظي الثلاثي في القرآن الكريم – نماذج مختارة من الربع الأول”، وهو موضوع يتقاطع فيه الإعجاز البياني للقرآن مع الجهد الاجتهادي لعلماء الأمة الأسلامية

. ففي تقديمه للرسالة، أوضح المدغري أن المتشابهات اللفظية الثلاثية – تلك التي تتكرر فيها ثلاثة ألفاظ أو تعابير متقاربة – تشكّل تحديًا حقيقيًا لطلبة العلم والحفاظ، وقد تفتح الباب أمام شبهات “التكرار المجاني” التي يثيرها بعض الطاعنين في النص القرآني.

لكن بتوجيهها واستقراء سياقاتها، يظهر وجه جديد من أوجه البلاغة القرآنية التي لا ينقضي إعجازها.

وقد انطلق المدغري من إشكالية دقيقة مفادها: إلى أي مدى يمكن لتوجيه المتشابه اللفظي الثلاثي أن يزيل الإبهام ويكشف عن المعنى المقصود؟ قسم بحثه إلى فصلين: • فصل نظري تأصيلي لمفاهيم المتشابه، نشأته وأنواعه وقيمته العلمية. •

وفصل تطبيقي تناول فيه نماذج مختارة من الربع الأول من القرآن، مبرزًا دقة التعبير القرآني وسر التمايز في المواضع المتشابهة.

وتألّفت لجنة مناقشة الرسالة من ثلة من الدكاترة الأجلاء والأساتذة المرموقين بالكلية متعددة التخصصات بالناظور، وهم: الدكتور نجيب العماري، أستاذ مؤهل (مشرفًا)، والدكتور محمد بنعياد، أستاذ التعليم العالي (رئيسًا)، والدكتور عبد اللطيف تلوان، أستاذ التعليم العالي (عضوًا)، والدكتور محمد سهلي، أستاذ مؤهل (عضوًا).

وقد أشرف هؤلاء الأساتذة الأفاضل على المناقشة العلمية للرسالة. وقد أجمع أعضاء اللجنة، بعد نقاش علمي ممتد، على قيمة الرسالة وجديتها، وأشادوا بالجهد الكبير المبذول في معالجتها، مع تقديم جملة من الملاحظات العلمية الدقيقة، واختتمت الجلسة بمنح الباحث نقطة 18/20 مع التنويه بمستوى البحث وروحه العلمية العالية.

درس في الإصرار… ورسالة للأجيال لم تكن مناقشة عيسى المدغري مجرّد لحظة علمية، بل كانت في عمقها درسًا في المثابرة والإرادة، ورسالة مفتوحة لكل من اعتقد يومًا أن قطار التعليم قد فاته، أو أن الأحلام مؤجلة بقدر توالي السنوات.

فقد أثبت هذا الإمام الستيني أن التوفيق بين أداء رسالة المسجد والوفاء بمتطلبات البحث الأكاديمي، ليس أمرًا مستحيلاً، بل هو خيار من اختيارات القلوب المؤمنة بجدوى العلم وخدمة القرآن. إن ما قام به عيسى المدغري هو انتصار ناعم، لا ترفعه لافتات ولا تخلّده الأضواء، لكنه يجد مكانه في الضمائر الحيّة، ويزرع الأمل في نفوس كثيرين ممن يرغبون في إتمام دراستهم، أو اقتحام أسوار البحث العلمي مهما بلغوا من العمر أو المسؤوليات.

وفي تفاعل كريم مع هذا التوثيق، عبّر الأستاذ الباحث عيسى المدغري عن امتنانه بالقول: “والله لقد أخجلتموني بكلامكم في حق هذا العبد الفقير.

فما أنا إلا طويلب علم ليس إلا، ولكن يشفع لذلك أنكم وضعتم الإصبع على الهدف والغاية من هذا البحث، ألا وهو إثارة انتباه الشباب أصحاب القوة والفتوة إلى الاقتداء بمن هم في مرحلة الكهولة في طلب العلم، وبيان أن العلم من المهد إلى اللحد.

ولو ذاق شبابنا حلاوة العلم، ما فضّلوا عليه شيئًا سواه. وقد سُئل المأمون عن ألذّ الأشياء، فقال: التجوّل في عقول الناس؛ أي مطالعة الكتب.” وأضاف بتواضعه المعهود: “وإني لا أشكركم من صميم القلب على أنكم تحملون صدقًا همّ الشباب، وتودّون إعادتهم إلى السكة وإلى الطريق الصحيح الذي لا نجاة ولا سعادة، بل ولا حياة من دونه: إنه طريق العلم والمعرفة. وقد ذكر الله تعالى قصة موسى مع الخضر لمقاصد شتى، من أهمها أن طلب العلم يحتاج إلى رحلة وصبر، وأن الإنسان عليه أن يبقى متعلّمًا ممن يعلم ما لا يعلم، مهما كانت رتبته ومنزلته وسنّه.” بهذه الكلمات النابضة بالإخلاص، يختتم الباحث شهادته، مؤكدًا أن طلب العلم ليس حكرًا على مرحلة عمرية، بل هو مسار حياة يليق بأصحاب الهمم والعزائم ختامًا…

في زمن السرعة واللهاث، يطل علينا المدغري كصوت هادئ، رصين، يقول بلغة الواقع: “لا تيأس، الطريق ما زال أمامك”.

فهنيئًا له بهذا التتويج المستحق، وهنيئًا للكلية متعددة التخصصات بالناظور بمثل هذه النماذج التي تُجسد المعنى الحقيقي لـ”طلب العلم من المهد إلى اللحد”.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي جريدة البديل السياسي