الزربــــــــوط” المسخــــوط….بقلم الأستاذ عبد القادر بوراص
بقلم الأستاذ عبد القادر بوراص- جريدة البديل السياسي
الزربــــــــــــــــــــــــــــوط” المسخــــــــــــــــــــــــــــــوط
دخل المدينة بداية فصل الخريف وهو لا يملك من متاع الدنيا غير ملابسه الصيفية الخفيفة، بقميص قديم فقد معظم أزراره وسروال من كتان رديء حال لونه، يحمل كيسا بلاستيكيا أسود فيه زاده من الطعام الذي لا يكفيه لأكثر من ثلاثة أيام، كان عبارة عن خبزة كبيرة شطرها إلى نصفين، وتين جاف وحبات لوز وقنينة صغيرة من زيت الزيتون. سبق له أن زار المدينة بضعة مرات لمساعدة والده في تسويق محصوله الزراعي بالسوق الأسبوعي حين كانت الأرض الفلاحية معطاءً والإنتاج وفيرا، كما كان الحارس المهيب لقطيع الأغنام إبان عرضها للبيع مع اقتراب حلول عيد الأضحى. لا أحد من اللصوص يجرؤ الاقتراب من والده وهم يرون “الزربوط” وقد برزت عضلات صدره المفتولة من ثقبات قميصه الممزق وبيده عصا غليظة رصع هامتها بمسامير حديدية. كانت عيناه المرعبتان تتطاير شَزْراً وهو يداعب عصاه بين يديه المتشققتين الخشنتين بفعل ممارسته اليومية للأعمال الفلاحية حتى أن أهل القرية كلهم كانوا يستعينون بخدماته في الأعمال الشاقة.
“الزربوط” لقب اكتسبه من قصر قامته وضخامة جثته التي نبت فوقها رأسه المكور الصغير دون عنق تقريبا كمسمار خذروف، ومع ذلك فهو سريع الحركة ولا أحد يمكن أن ينافسه في المشي أو الجري، كان يذهب ويعود راجلا من المدينة فيما كان المتسوقون من سكان القرية يتكدسون في عربة نقل نفعية سرية مهترئة. كان والده يؤثره على باقي إخوانه الذكور الخمسة لفطنته المتقدة منذ صغره ولجرأته الكبيرة في مواجهة المصاعب، حيث تمكن من قتل الذئب الشرس الذي كان يهاجم أغنام القرية بانتظام، كما كان صيادا ماهرا للأفاعي والعقارب السامة التي كانت تتوافد بكثرة على عين الماء الطبيعية للارتواء إبان اشتداد الحرارة.
كان قاسيا حتى على نفسه في كل شيء إلا الأكل، فقد كان نهما يقبل على الطعام بشراهة زائدة مما جعل المدعوين يتجنبون الجلوس معه في الولائم. وكان يلجأ في غالب الأحيان إلى بستان والده متأبطا جرة ماء صغيرة من طين كساها بثوب خشن مبلل وبعض الخبز الذي هيأته والدته بفرنها التقليدي القابع بشموخ في طرف الرحبة الخاصة بعملية درس الحبوب ليتغدى على الخضر حسب موسمها من طماطم وبصل وفلفل حار وخيار وفواكه مثمرة. قوته وهيبته وجبروته فرضت على أهل القرية احترامه مكرهين في حضوره إلا أنه سرعان ما يصبح مثار سخريتهم وتهكمهم أثناء غيابه عن مجلسهم.
كان “الزربوط” أُمِّيّاً لم يجلس قط فوق مقاعد الدراسة كما لم يدخل مسجدا للصلاة بدعوى أنه لا يحفظ من القرآن ولو آية قصيرة، وكان يمقت فقيه القرية ويتجنب لقاءه بعد أن أَلَحَّ عليه في الالتحاق بالجامع لأداء الصلاة كباقي البدو. عزف عن الزواج رغم أنه كان كبير إخوته، ذو حقد دفين للمرأة ويسب النساء في سره وعلنه دون سبب وجيه، وكان يتحاشى النظر إلى فتيات القرية ويسرع الخطى وهن يَسْتَفْزِزْنَهُ بِتحرُّشِهنَّ به بشكل علني بعد أن عرفن طباعه وموقفه العدائي للمرأة، وينغمسن في الرقص بشكل جماعي وهن يُرَدِّدْنَ: “ها هو الزين لَحْبِيبْ الزَّرْبُوطْ .. ما بْغَا يْحَنْ عليَّ هَاذْ الْمَسْخُوطْ”، فيقابل ذلك بشتم غير مفهوم لا يخلو من كلمات فاحشة واضحة ومفهومة أحيانا.
طباع “الزربوط” الجلفة وعدم تسامحه مع أعدائه هي جزء لا يتجزأ من طباع والده وأعمامه، وقد نفرت أهل القرية وكل من عرفهم منهم وأصبحوا لا يتعاملون معهم إلا لضرورة ملحة، مما تسببت في بوار أختيه الإثنتين، ولم يعد أحد يكترث بجمالهما الأخاذ لا لشيء سوى لكونهما أختي “الزربوط”، فتمنت الفتاتان في قرارة نفسيهما لو لم يكن أخوهما، وكانت كبراهما تردد من حين لآخر على مسمع أختها ووالدتها ومن يسألها عن بوارها وعدم زواجها: “هذا ما جناه علي “الزربوط” وما جنيت على أحد”! وهو ما التقطته أذنا أخيها ذات مرة وهو يلج الدار على حين غفلة، فنظر باستغراب إلى ابنة أمه وأبيه وهي تنعته بالزربوط اللقب الذي لو سمعه من غيرها لكان له شأن آخر، ولم يصدق اتهامها له بأنه السبب وراء عنوستها، فكان هذا مبررا كافيا لمغادرة القرية في اتجاه المجهول نحو المدينة.
كان “الزربوط” محظوظا حيث اشتغل حارسا ليليا بأحد الأحياء الراقية واكتسب ثقة السكان فعاملوه بلطف زائد، وتصدقوا عليه بما فضل عليهم من ملابس نظيفة شبه جديدة، مع استفادته من وجبات غذائية دسمة، فقابل معاملتهم بتفانيه وإخلاصه في عمله مع توفيره الراحة والأمن الكاملين لمشغليه. ولشدة صرامته أصبح الحي محرما على المنحرفين والمشتبه فيهم، فذاع صيته ليصل إلى سكان الأحياء المجاورة فحاولوا استقطابه عن طريق إغرائه برفع أجرته، إلا أنه رغم بداوته وأميته فقد كان صاحب مبدإ ورفض جميع عروضهم.
وعلى غير المألوف توقفت في وقت متأخر من الليل سيارة فارهة أمام “بَرَّاكَتِه” الخشبية ذات اللونين الأحمر والأخضر التي خلفها الحارس السابق بعد هجرته السرية إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، نزل صاحبها الضخم بوجهه المنتفخ من أثر النعمة وقد توسطت سيجارة شفتيه السوداوين من دخان التبغ، وعبقت المكان رائحة قوية غير مألوفة. حيا “الزربوط” بأدب مبالغ فيه وامتص رشفة بجنون من سيجارته قبل أن يعرضها على الحارس الذي بدا منفعلا للغاية قبل أن يتمالك نفسه ويرد بتلعثم أنه لا يدخن، فتظاهر ضيفه الليلي بالتعجب والاستغراب مبينا بابتسامة ماكرة أن الرجولة لا تكتمل إلا بتعاطي الحشيش ومشتقاته. وودعه بعد أن نفحه بورقة مالية وضعها “الزربوط” بحذر شديد في كيس جلدي خاطه بنفسه من بقايا حقائب ومحفظات جلدية نسائية التقطها من صندوق القمامة، لتنضاف إلى وريقات مالية سابقة كان يحرص على عدِّها وتعدادها كل يوم بعد استبدال البالية منها بأخرى جديدة من صاحب المتجر الكبير الذي كان يساعده نهارا في إفراغ السلع والبضائع من الشاحنات وتصفيفها بالرفوف.
توالت زيارات صاحب السيارة للحارس الليلي كلما عاد من سهرته الماجنة، وعرف كيف يكسب ثقته بعد أحأديث معسولة اكتفى “الزربوط” في أغلبها بالصمت والنظر بريبة إلى محدثه. وتكررت زيارته له بشكل منتظم حتى أصبح يفتقده حين يغيب عنه. وذات ليلة مقمرة أقنعه بعد حوار دام إلى ساعة متأخرة من الليل بضرورة تحسين وضعه المادي والعيش كباقي خلق الله بكرامة دون مد يديه لأي مخلوق، واصطحبه ذات مساء إلى سهرته الماجنة فوقف واجما وهو يرى كل هذا البذخ الذي لا أول له ولا آخر، وراقصات شبه عاريات يطفن على الندماء بكؤوس الراح والخمور المعتقة، وتحلقت حوله مجموعة من بائعات الهوى وأخذن في استفزازه عبر التقليل من رجولته، فشرد فكره وأصبح يَرَاهُنَّ في صورة فتيات قريته وهن يتحرشن به في استهزاء وسخرية، ودفعهن بقوة حتى تساقط الكثير منهن أرضا وهن يُقَهْقِهْنَ بصوت عالٍ مما زاد من منسوب غضبه وسخطه، وغادر النادي الليلي مسرعا دون أن يلتفت وراءه، وفتح “براكته” وتناول عصاه الغليظة وقفل راجعا إلى الملهى، حيث دخله مزبدا مرعدا وهو يصيح: “أنا الزربوط المَسْخُوطْ .. عَمْرُو فَ النْسَا مَا كانْ مَرْبُوطْ”، ولَوَّحَ عصاه عاليا قبل أن ينهال بالضرب على كل من صادفه في طريقه وخلف الكثير من الضحايا جروحهم متفاوتةالخطورة، وسالت دماؤهم غزيرة ليتحول المرقص إلى مجزرة حقيقية، وأطلق ساقيه للريح نحو وجهة مجهولة، وما زال البحث ساريا في حقه بعد أن اتهمته بعض الأطراف التي تجهل كل شيء عنه بالإرهاب، وتناقلت بعض الجرائد الصفراء صورته على صفحاتها الأولى بعناوين مثيرة من قبيل: “الزربوط” يتحول إلى وحش آدمي” و ” إرهابي يحول مرقصا مسالما إلى مجزرة دامية”…
* “الزربوط”: بالعربية الفصحى الخذروف أو الدوامة، وهو لعبة للأطفال.
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار