الرئيسية كتاب وآراء الرحالة ابن بطوطة أمام صدمة الحداثة بقلم عبد القادر بوراص

الرحالة ابن بطوطة أمام صدمة الحداثة بقلم عبد القادر بوراص

كتبه كتب في 21 يونيو 2024 - 3:35 م
جريدة البديل السياسي 
الرحالة ابن بطوطة أمام صدمة الحداثة
بقلم عبد القادر بوراص
بعد أن أخذ نفسا عميقا، خلع كفنه ونفض النقع الملتصق بجسمه النحيف الذي احتفظ برشاقة قوامه، وحاول تصفيف لحيته الشعثاء وشعر رأسه الأغبر بعد أن اتخذ من يده مشطا، ووضع برنوسه الرث المصنوع من وبر الجمل على كتفيه، ونظر ذات اليمين وذات اليسار بعينيه السوداويتين الغائرتين مستطلعا المكان باحثا عن مسلك يخرجه من هاته المقبرة المنسية بعد أن لم يعد أحد يزورها وتساوت القبور مع أرضيتها، مما جعلها مثار طمع وجشع المقاولين ينتظرون الفرصة السانحة للاستيلاء عليها وتحويلها إلى تجزئة سكنية مربحة، بعد أن ضاقت المدينة بسكانها.
كانت الشمس تجنح للمغيب حين انطلق بمهل وتؤدة عبر طريق ضيقة متربة، وهو متوجس خيفة من قطاع الطرق والوحوش الضارية، متسلحا بصخرة مسننة هي أقرب إلى خنجر حاد. ولما تيقن بأنه في مأمن أسرع الخطى دون أن يعرف أين ستقوده قدماه، خاصة أنه تعود على مثل هذا الوضع وهو يتنقل من مكان إلى مكان، ويرحل من بلد إلى آخر.
لاحت له من بعيد أنوار ساطعة فوقف يتأملها بانبهار ودهشة، فرك عينيه بشدة وأمعن النظر في ما يرى، واعتقد أنها كوكب لشدة نوره ولمعانه، فقرر متابعة طريقه مع ترديد بعض الأوراد التي حفظها عن ظهر قلب أثناء حلوله ضيفا على إحدى الزوايا بالعراق ليجد نفسه بطريق معبدة واسعة لم ير مثلها في حياته قط، فانحنى ولمسها بيده بكل حذر فوجدها رطبة تليق للنوم عليها دون فراش، فهام به خياله إلى حضارة الفراعنة وأعتقد جازما أنه في مصر، واسترجع كل ما كتبه عن هذا البلد حين زاره في شهر يوليوز سنة 1023، وتعرف عن قرب على حياة المصريين من خلال تحفة المدن المصرية وقتها وهي الإسكندرية، حينها لم تكن القاهرة سوى حي صغير ومغمور.
وهو على مشارف المدينة، وقف ليسترق السمع بعد أن ملأ ضجيج السيارات سمعه وأعمى نور مصابيحها بصره، وتأهب لمواجهة كل خطر داهم وهو يرى شبحا متوجها نحوه، ولم يكن سوى إمام أكبر مسجد بالمدينة كان عائدا من وليمة أقامها أحد الأعيان الأثرياء بعد فوزه في الانتخابات الجماعية. حياه فرد عليه بتحية أحسن منها، وطفق ينظر بإعجاب إلى لباسه الأنيق الذي كان عبارة عن “جابادور” بألوانه الزاهية الجميلة، وطربوشه الناصع البياض المجلوب من مكة المكرمة، مما جعله يطرد من فكره أنه في بلاد الفراعنة. واستفسره إمام المسجد عن وجهته، فأجابه بتلعثم أنه عابر سبيل ولا شك أنه ضل الطريق، فطمأنه الإمام داعيا إياه إلى قضاء الليلة معه بالمسجد.
دخل المسجد مستغربا للزرابي المزركشة التي فرشت بأرضيته الرحبة الواسعة والتي لم تكن متواجدة سوى بإيوان كسرى وقصور الفرس، والثريا الضخمة النفيسة التي أضاءت المكان، وبهرته الآيات القرآنية المنقوشة ببراعة عالية على جدرانه، وقبته المزخرفة التي تفننت الأيادي العاملة الماهرة في إتقان عمارتها، ومنبره المنيف المصنوع من أجود الخشب، فلم يصدق ابن بطوطة أنه في مسجد تقام فيه الصلوات الخمس وإنما هو في قصر بديع يضاهي تلك التي استضافه فيها بعض الحكام والسلاطين أثناء رحلته الطويلة.
لم تغمض له عين تلك الليلة ولم يجد تفسيرا لما يعيشه، وانغمس في تفكير لا محدود أصابه بصداع حاد، لم يخرجه منه إلا أذان الفجر والإمام يردد بصوت شجي:”الصلاة خير من النوم”، فنهض وظل جالسا بمكانه إلى أن أرشده قيم المسجد على مكان الوضوء، فدخله بنوع من الحيطة والحذر خوفا من الانزلاق على أرضيته المكسوة بالزليج والرخام الفاخر، ليجد المراحيض مصطفة في نظام وهي في أحسن حال وفي منتهى النظافة، والصنابير متحكم في مائها والدلاء متوفرة بقدر مبالغ فيه، فتوضأ وحيدا وعاد إلى المسجد محاولا أن يجد جوابا مقنعا لما يعيشه.
انبلج ضياء الصباح وغادر ابن بطوطة المسجد بعد أن أمطر الفقيه بوابل من الدعوات التي كان يرددها شيوخ الزوايا قديما، مما جعل الإمام يستغرب من دعواته معتقدا أنه مجذوب أو من أولياء الله الصالحين. وهكذا وجد نفسه أمام عمارات شامخة، وشوارع وأزقة معبدة وواسعة، وخلق كثير يتسابقون لامتطاء عربة لم ير مثلها قط في حياته، فسأل أحد المارة عماذا تكون، إلا أن هذا الأخير ابتعد عنه بسرعة وهو ينظر إليه بسخرية ظانا أنه أحمق. وزادت حيرته حين شاهد هذا الكم اللامتناهي من السيارات والشاحنات بمختلف أنواعها وأحجامها وهي تعبر الطرق ذهابا وإيابا، وتعجب من نظامها وهي تمتثل لعلامات المرور، فأخرج جلد ماعز يابس قد تمزقت بعض أطرافه لقدمه، وحاول أن يدون ما شاهده عليه إلا أنه لم يجد قلما وسمقا للكتابة، فأرشده رجل إلى مكتبة لشراء ما يحتاج إليه، ولكم كانت مفاجأته كبيرة والكتبي يناوله قلم حبر جاف دون حاجة إلى دواة سمق، فأخذه وانصرف وهو يردد: “يا للعجب! ماذا وقع؟ كل شيء تغير في طرفة عين”.
تابع ابن بطوطة طريقه وعيون المارة ترمقه باستغراب شديد، وتسبب أكثر من مرة في توقف كثير من السيارات بعد أن حاول العبور دون اهتمام بها، مما تسبب في إطلاق عدد من السائقين العنان لمنبهاتها، بل وبعضهم كال له سيلا من الشتائم لا تخلو من كلمات نابية لم يسبق له أن سمع بمثلها، فردد في نفسه: “إنها علامات الساعة، حان وقت الفناء! فاللهم الطف بنا!”…
بعد مشقة وعناء، وجد ابن بطوطة نفسه أمام أسوار قديمة فتنفس الصعداء لاعتقاده أنه وصل أخيرا إلى وجهته الصحيحة، لا شك أنه سيجد خلف هذه الأسوار خياما من وبر وكتان، ومرابض للخيل والإبل وغيرها من الأنعام، وسيلتقي برجال من طينته يرتدون برانس ثقيلة وعلى رؤوسهم رزات وعمامات طويلة وضخمة، ويتأبطون محفظات من جلد مكسو بشعر الماعز، ونساء بأرديتهن التي لا تظهر منها غير عيونهن، إلا أن ظنه خاب وهو يدخل من إحدى الأبواب حيث وجد خلقا لم ير مثله من قبل، اختلاط بين الجنسين وتدافع كبير، وسلع مختلفة قد ملأت رفوف الدكاكين وطاولات الباعة المتجولين، وصخب وجلبة لم يعهدها في أسواق الإسكندرية والشام، وخضر وفواكه ولحوم وأسماك متنوعة رصت بطريقة منتظمة تغري الزبائن، فوقف أمامها وهو يحملق في أصحابها باندهاش، فكان بعضهم يمده ببعض منها معتقدا أنه متسول فيرفض ذلك بشدة معتبرا ذلك إهانة في حقه. وتأسف عن حاله وكيف فقد مكانته وجاهه بعد أن كان الحكام يقفون إجلالا واحتراما له، ويولونه أكبر مناصب الدولة خاصة القضاء، ويزوجونه بناتهم لما في ذلك من شرف لهم.
طوى ابن بطوطة صحائفه وكسر قلمه، وما عاد قادرا على كتابة وتدوين ما شاهده كما فعل ذلك سابقا في “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وقرر العودة من حيث أتى لأنه أصبح غريبا لا يمكنه أن يساير هذا التطور الحديث الذي عرفته البشرية في هذا العصر.
قد تكون رسمة
مشاركة

تعليقات الزوار ( 0 )

أضف تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .