جريدة البديل السياسي |كتاب وآراء

موعد مع الستين! بقلم الدكتور إسماعيل فيلالي

téléchargement (14)

جريدة البديل السياسي 

موعد مع الستين!

بقلم الدكتور إسماعيل فيلالي

بدأ العمر ينفلت منا يا صاحبي ونحن لا ندري متى تتوقف دقات القلب التي تقول لك في كل دقّة إن الحياة دقائق وثوان، لقد تحمل هذا الجسد من ثقل الحياة ومشاقها وأتعابها ما تنوء به الجبال والبحار والوديان، مضى العمر في خدمة الأسرة الكبيرة والصغيرة والناس أيضا الذين تشعبت مشاكلهم وامتدت بلا حدود…

لقد وصل العمر سريعا إلى الستين ومعه بدأ الرأس يشتعل شيبا؛ لذلك قررت أن أكتب عن هذا العمر القصير الذي أعيشه في هذه الدار الفانية، وأترك للقلم أن يرسم بالحبر كيفما شاء ويكتب عن الحياة والأشخاص الذين كانوا قريبين من القلب، وحتى الذين مروا قريباً من حياتي، التي يبدو أنها مرت بسرعة كسرعة البرق الذي يخطف الأبصار، مضى زمن ليس بالقصير وأنا أفكر كيف وصلت إلى سن الستين؟ نعم عمر الستين، العمر الذي تنقص فيه قوتك، عزمك، إرادتك، حماسك وأحلامك…

وجدت نفسي أمام مرآة تقول لي وتلح علي، بما لا يدع مجالا للشك، انك وصلت سن الستين.

ما أصعب أن تكبر وتجد نفسك أمام قسطاس يرجح نقصان أيامك وأنت كما أنت!!

لقد تبين لي أني فعلا استوفيت ستة عقود من عمري وما يزيد، لذلك أعلن لكم في هذا العمر الذي سيلج العقد السابع، أنني كالصحراء في شساعتها ويباب طبيعتها وكالبحر المليء بالدرر، وأن العمر الذي سيطوي صفحة الستين انكسر من فيض الحب والأمل والأحلام الكثيرة، منها ما تحقق ومنها ما يزال في طريق البحث، ومنها ما لم يتحقق، ومنها الأحلام الضائعة ومنها المؤجلة، وأنا لا أستطيع إطلاقا أن أعيد عقارب الوقت إلى الوراء وأوقف العمر حتى أنتظر أحلامي لتلحق بي..

نعم لقد كبرت وبلغت من العمر حقل الستين وليس بيدي ما أفعله، وهذه سنة الله في خلقه.

إنني في طريقي إلى أعتاب الشيخوخة، وهذا لا يعني الخوف من متاعبها ومرارتها أو من شبح الموت، ولكن أمنيتي وأملي أن أبقى بصحة وعافية إلى أن ألقى الله سبحانه عز و جل راضيا مرضيا.

ما أكثر الأوقات التي مررت بها في هذا العمر القصير، منها المليئة بالأفراح والذكريات الجميلة، ومنها التي تعج بالأحزان والذكريات المرّة.. وكذلك تتوالى علينا الأيام مسرعة ويمضي بنا العمر دون توقف، فتأخذ الحياة أعمارنا عنوة لتحقق سنتها الثابتة في هذا الكون…

فمن مرحلة الطفولة البريئة والشقية إلى مرحلة المراهقة والشباب الجميلة والمشاكسة..

ثم مرحلة الرجولة والكهولة لننتهي بالدخول في مرحلة الشيخوخة التي طالما دعونا لمن نحبهم بأن يبلغوها بسلام بالرغم من كل مساوئها وأتعابها وآلامها التي لا تحصى…

في جنح الظلام، وفي خضم هواجس هذه الشيخوخة، جلست في صمت رهيب، وأنا آوي إلى فراشي، فانتهى بي الأمر إلى استعادة شريط الذكريات الجميلة والقبيحة، السعيدة والشقية، أقلب صفحاتها وأتذكر كم تعبت، كم تألمت، كم بكيت، كم من الوقت قضيت في قلعة الإسمنت ظلما وعدوانا، سوى لأنني خرجت في سنة 1984 إلى الشوارع صحبة رفاق لي لنقول وقتها لا للغلاء، لا للفساد، لا للظلم لا للاستعباد، نعم للحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية..

لقد أتعبتني ثلاث سنين وأخذت منّي أكثر مما أخذه العمر الذي مضى والذي يصر أن لا يعود إلى الوراء…

تجارب الحياة المرة التي عشتها في دهاليز خيمة الإسمنت حزن وبؤس و تذمر ومعاناة وحرمان من أشياء كثيرة كنت أتمناها..

ونقطة الضوء الوحيدة فيها أنني تابعت دراستي الجامعية وحصلت على الإجازة من داخل عتمة السجن. كم عشت فيها ضياع الفرص، كم من أحلام سرقت مني، كم خذلني الأصحاب والمقربون، كم طعنني الأصدقاء، كم تشمت بي الأعداء والخصوم، كم وكم….

حتى مضى العمر سريعاً يسرق معه الأحلام من دون أن يلتفت إليها… وفي مقابل ذلك وضده فالذاكرة تحمل، أيضا، صورا لكثير من الأحبة الذين لا يزال صدى حبهم يملأ شغاف القلب، منهم من لا يزال على قيد الحياة أطال الله في عمرهم، ومنهم من فارقوا الحياة عليهم رحمة الله… لم أكن أستطيع السكوت على الظلم والطغيان أبدا، ولا أخضع للاستغلال والاستعباد من أي مخلوق كان. لا أعرف اليأس وأتشبث بالأمل ولو كان ضعيفا. ورغم قساوة الحياة وعمق الجراح لم أركع لأحد إلا للذي خلقني رب العرش العظيم، ولن أخشى أحدا سواه…

أحترم الناس وأحب لهم العيش الكريم والشريف. أسمو بنفسي عن كل تفاهات الحياة وأعيش بتواضع من دون نفاق…

أعلم أني عبد ضعيف وإن كانت لي قيمة في هذه الحياة فهي من عظمة الخالق الذي وهب لي الحياة والخلقة الجميلة والعقل والقلب السليم والعفة والكرامة والشجاعة ليرى كيف أتصرف بهذه العطايا وكيف أسمو بنفسي عن الخطايا والمعاصي وإيذاء الناس…

ومن تم عرفت سبب وجودي في هذا الكون الرائع والجميل… فأنا بشر ممن خلق الله مسير بقدري فيما لا أعلم، ومخير فيما أعلم، مشبع بمخاوف لا حصر لها بثقل كبير من التجارب والخسارات…

ومع ذلك لا أزال أشعر أني شاب في مقتبل العمر بذلك القدر الذي تتردد فيه الإرادة والعزيمة القويتين…

فالقلب، هذا الكائن الصغير لم يشخ، وما يزال يعشق ويحلم وينتظر حتى تأتيه الفرصة ليحقق أحلامه التي لم تنته أبدا…

عمر الستين ميلاد جديد لا يحسب بعدد السنين، بل بعدد زهرات العمر وقرّات العين الذين أمدهم بإخلاص بحب كبير ملئ السموات والأرض وما بينهما، لأبقى أؤمن أن هناك ما يستحق أن أعيش من أجله، فجميع أنواع الحب القائمة على المنفعة تزول بسرعة، وتنتهي بانتهاء عللها باستثناء العشق المتأصل والمتوغل في النفس، الذي يخص الأبناء والأحبة فلا ينتهي إلا بالموت…

كم تألمت وحزنت أيضا لأن البعض من أحبابي وأصحابي توقفت حياتهم في منتصف الطريق فترجلوا من الحياة في البدايات الأولى أو أوسطها مسرعين ومضوا من غير عودة، فتركوا في قلبي جراحات نزفت طويلا ولم تخفت أحزانها وألامها بسهولة.. لكنني آمنت بالقضاء والقدر واقتنعت بأن كل إنسان لا يأخذ إلا حظه من هذه الدنيا الفانية.. وأن ما حصل هو ما ارتأته عين الله البصيرة وقدره المحتوم الذي يقول لك “إنك ميت وإنهم ميتون”..

فصبرت على من فارقتهم مبكرا ومضيت مع الحياة السائرة بعزم وإصرار..

وكم من أهلي وأحبابي وإخواني ورفاقي من غابت عني أخبارهم، فانقطع حبل الوصال بيننا دون أن أسمع منهم كلمة وداع…

وأمام كثرة الفساد وتوغل لوبيات الفساد في المجتمع فقد طلقت السياسة واعتزلت كل ما له صلة بها، وتخليت عن النضال وهجرت الأحزاب والنقابات فاسترحت استراحة محارب وفي نفسي شيء من حتى؟؟؟ وإذ يمضي بى العمر إلى وجهته النهائية حيث لا مناص من الترجل والنزول إلى دار القرار، ليس هناك ما يقال سوى ما أسعد من استغل تلك الرحلة في عبادة الله، وقام بأشياء مفيدة ونافعة له ولغيره لتكون في صحيفته يوم يلقى الله… وما أعظمها فرحة من حقق الكثير مما تمناه في حياته! وما أروع من ملأت حياته الرغبة بالعطاء وصار شجرة مثمرة يقطف منها الآخرون!

وما أجمل من كان وفيا وتواصلت نفسه مع من يحب وحتى مع من لم يحب! وإذ كانت رحلتي في هذه الحياة ستنتهي لا محالة لتتواصل رحلة الحياة السائرة إلى أمام دون توقف وبلا انتظار…

فأمنيتي أن أتطهر من مشاعر السوء فيما تبقى لي من هذا العمر إذا قدر الله البقاء، وأن أغسل قلبي بماء الدموع لتذهب عني أحاسيس الحقد والكراهية، ويزول منها داء الغيرة والحسد وتستوطنني محبة الله والناس…

والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا” صدق الله العظيم.

 

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي جريدة البديل السياسي