بقلم الأستاذ عبد اللطيف الغزلاني محامٍ بهيئة الجديدة- جريدة البديل السياسي
أصبحت العديد من القضايا المعروضة على السلطة القضائية يُبت فيها عبر وسائل التواصل والإعلام قبل أن تبت فيها الجهات المختصة، وفي ذلك مساس خطير بهذا المبدأ العالمي والدستوري والقانوني…
هذا المبدأ الذي نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الحادية عشرة، والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وكرّسه دستور المملكة المغربية لسنة 2011 في الفصل 23، الذي جاء فيه بأن قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان، ثم المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على أن كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يُعتبر بريئًا إلى أن تثبت إدانته قانونًا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل من حق أياً كان أن يخوض في نازلة والتشهير بأصحابها بالرغم من أن الملف أو النازلة لا زال معروضًا أمام المحاكم، وأحيانًا أمام البحث أو التحقيق الذي يكون مشمولًا بالسرية، أو لا زال لم يصدر بشأن النازلة أو الوقائع حكمٌ اكتسب قوة الشيء المقضي به؟
وهل يدخل تناول مثل هذه المواضيع المطروحة أمام أنظار العدالة في أي مرحلة، سواء بحث أو تحقيق أو محاكمة، ضمن مجال حرية التعبير؟ فإذا كان المشرع نص على احترام مبدأ قرينة البراءة كأصل في الإنسان عبر مجموعة من النصوص القانونية، وكرّسه بمجموعة من الإجراءات والضمانات القانونية، فإن ما يعيشه المجتمع اليوم على مستوى وسائل الإعلام، خاصة المكتوبة والإلكترونية، وأيضًا على مستوى التواصل الاجتماعي من فوضى في حرية التعبير، يصل إلى حد مخالفة مبدأ قرينة البراءة التي كرّستها النصوص القانونية السابقة.
. فحرية التعبير والرأي، إن كانا بدورهما مضمونان، إلا أنها مؤطران من الناحية القانونية، فهما لا يعنيان كتابة أو نشر او قول أي شيئ في نازلة لا زالت معروضة على العدالة للبت فيها.
وما يُلاحظ في الكثير من الأحيان أن وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام المكتوبة والإلكترونية أصبحت تصدر أحكامها وقراراتها في قضايا قبل أن تصدر السلطة القضائية أحكامها أو تتخذ قرارات بشأنها، وفي ذلك مساس خطير بمبدأ غاية في الأهمية، ويُعتبر ركيزة أساسية في المحاكمة العادلة. ومادام أن القوانين نصّت على احترام وتكريس ذلك المبدأ، فإنه لا يمكن المساس به تحت ذريعة حرية التعبير والرأي، لأن نقطة التقاطع بين احترام المبدأ والحق في التعبير والرأي هو وجود نصوص قانونية تنص على احترام المبدأ المذكور.
وفي نفس السياق قد يقول قائل بأن هناك عدة مقتضيات قانونية زجرية على الخصوص، كفيلة بحماية هذا المبدأ، إلا أن الواقع العملي أثبت أن جميع النصوص الناظمة لذلك المبدأ غير كافية لتوفير الحماية اللازمة له. كما أن المسّ بهذا المبدأ قد يكون له آثار جد وخيمة على شخص المشتبه فيه أو المتهم في أي مرحلة من مراحل الخصومة الجنائية.
. وعلى فرض أن هذا المتهم الذي تم الخوض في الوقائع المتعلقة به والتشهير به حصل على البراءة، سيخرج منهكًا ومُدمّرًا نفسيًا، إضافة إلى الآثار النفسية السيئة التي يتعرض لها أمام أسرته وعائلته ومحيطه. وأمام هذا الزخم من الخرق القانوني الفادح لمبدأ متأصل، لابد من التفكير في توفير الحماية الجنائية لهذا المبدأ عبر سن نص جنائي يُجرّم ويُعاقب على المسّ به بأي وسيلة كانت قبل صدور حكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به.
لأن تجريم وتحديد العقاب على المسّ بمبدأ قرينة البراءة في إبانه سيريح نفسية المشتبه به أو المتهم، سواء أُدين أو تمت تبرئته، وسيتم توفير حماية جنائية صارمة لهذا المبدأ الذي يتم العصف به من خلال تناول وقائع ومواضيع في طور البحث أو التحقيق أو خلال المحاكمة.
ولذلك فالمشرع مدعو اليوم للتفكير بشكل جدي للتدخل لوضع نص جنائي يُجرّم ويُعاقب على المسّ بمبدأ قرينة البراءة، لصونه وحمايته، وللحد من ظاهرة تناول قضايا ومواضيع معروضة أمام العدالة والتي يتم إصدار أحكام مسبقة بشأنها.
بقلم الأستاذ عبد اللطيف الغزلاني محامٍ بهيئة الجديدة
تعليقات
0