جريدة البديل السياسي |كتاب وآراء

ما وراء الظواهر الاجتماعية؟…. بقلم الحبيب عكي

akki_lahbib_03

جريدة البديل السياسي – الحبيب عكي

ما وراء الظواهر الاجتماعية؟

            إن الظاهرة الاجتماعية في علم الاجتماع، تعبر عن واقع اجتماعي تتجسد فيه الأفكار والمعتقدات والقيم والسلوكات وكافة العلاقات والتفاعلات البنيوية والهيكلية بين الأفراد والجماعات والمجتمعات. ولإن كان الرائد السوسيولوجي الألماني “ماكس فيبر” قد تحدث عنها بنوع من الاستخفاف لكون الفاعل الاجتماعي – في نظره – له هوية ومرجعية يختار وفقهما ويقدم على ما يقدم عليه من أقواله وأفعاله الاجتماعية بنوع من الحرية والإرادة والمنطق العقلاني والاستراتيحي، فإن الرائد السوسيولوجي الفرنسي “إيميل دوركايم” قد تحدث عنها في كتابه “قواعد المنهج في علم الاجتماع” بما يجعلها حتمية وقدرية وحاسمة في كل شيء، فقال أنها تاريخية، متكررة، موضوعية، قهرية تفرض نفسها على الأفراد، توجد قبلهم وتبقى بعدهم، وهي تحدد اختيارات وتوجهات الأفراد والجماعات والمجتمعات ونوع التفاعلات السائدة بينهم وحتى الصراعات والديناميات التي تنشأ بينهم، كما هو الشأن في ظواهر اللغة والدين.. والزواج والطلاق.. والبطالة والهجرة.. والجريمة والعقاب..، تفرض معاييرها على الجميع ولا سبيل للانفكاك من قيودها إيجابية كانت أو غير ذلك. 

 

            الظاهرة الاجتماعية أو الحادثة الاجتماعية أو حتى الفعل الاجتماعي..، ورغم ما يوجد بينهما من فوارق وتداخلات فإن لها جميعها أشياء ظاهرة وأشياء خفية، لا يتم التعاطي الحقيقي والأجدى معها إلا بإدراك ذلك الوجه الخفي فيها على قول “غاستون بشلار”: “لا علم إلا في ما هو خفي”، ولا يتم إدراك هذا الخفي إلا بدراستها كما يقول “دوركايم” دراسة وضعية كأشياء مجردة خاضعة للمنهج العلمي وأسسه من الملاحظة والتجريب والتحليل والتركيب والاستقراء الكمي والاستنباط الكيفي..، بعيدا عن كل ما يمكن أن يضرب في المنهج العلمي والحقيقة الاجتماعية الصرفة والمجردة، لا كما تتصورها ذاتية الباحث أو حتى إمكانياته أو كما تفرضها أحيانا كثيرة بعض الضغوطات الاجتماعية الرسمية أو الاختيارات الأيديولوجية المؤد لجة للباحث أو حتى إغراءات المؤسسات البحثية بتمويلاتها السخية أو ادعاءاتها في الجودة والخبرة المعيارية (ISO)، لأن كل هذا يفقد الباحث المصداقية وينحرف به عن الحقيقة العلمية ويجعله يسوق لوهم حقير يجعل الناس في معاركهم ضد مظاهر التخلف والفساد وكأنهم “دونكشوطيون” مهما واجهوا من طواحن هوائها وأعراضها زادت واستفحلت وأزمنت، فالهجرة مثلا لها مظاهر وأسباب ومآلات متعددة ومتداخلة، لم تفلح البشرية إلى اليوم في الحد منها ومن أضرارها لأنها وفي أحسن الأحوال تعالج مجرد أعراضها؟.

 

            قديما، بحث “جورج زيمل” في ظاهرة الفقر والتسول، وعلى عكس السائد من الحس المشترك واليقين الوهمي الدافئ، وجد أن سبب ظاهرة تسول الفقراء في المجتمع الألماني هو ما يقدمه هذا الأخير للمتسولين من مساعدات اجتماعية كأفراد و كمؤسسات؟. وهذا ليس من باب دعوته إلى عدم الصدقة والرحمة والإحسان والتضامن..، إنما تلك المساعدة هي التي تمنع المحتاجين – في نظره – من المبادرة الذاتية لتحسين أوضاعهم وإنقاذ أنفسهم، خوفا من أن يحرموا مما يتلقونه من المساعدة الموجودة والمضمونة على هزالتها؟. وسواء اتفقت مع الرجل في تحليله أو لم تتفق، فهذا ما نعيشه اليوم مع سياسة مأسسة التسول والمساعدة الاجتماعية عبر الوطن، حيث كثير من الأمهات والأسر يتخلى معيلوها عما كان قد توفر لهم من العمل في الجمعيات والتعاونيات ..، خوفا من أن يصعد مؤشرهم الاجتماعي فيحرموا مما ألفوه من المساعدة الاجتماعية الشهرية ولو كانت هزيلة لا تغني من شيء، ولكن على قول المثل: ” قليل دائم خير من كثير منقطع”، وهذه أحوال يعيشها المحتاجون أيضا في إسبانيا و إيطاليا وأمريكا..، مما يحرمهم من تغيير طبقتهم الاجتماعية أو حتى الرقي داخلها؟. من هنا ندرك قيمة الإسلام في معالجة الظاهرة عندما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم رجل فقير يسأله شيئا، فأعطاه فأسا وأمره بأن يحتطب، فاحتطب وباع واشترى.. وكسب من عرق جبينه، سابقا بذلك من قال بعده بالمشاريع المذرة للدخل أو “لا تعطيني سمكة بل علمني كيف أصطادها”؟.

 

            أيضا “سيرج بوغام” في كتابه “ممارسة علم الاجتماع”، وهو يبحث في الفقر والهشاشة حاول في البداية أن يظهرها مثل الآخرين على أنها ظاهرة اجتماعية عادية، الكل يسمع بها ويتحدث عنها، الاعلام يتناولها في مختلف الوثائقيات والحوارات، ويظهرها على أنها ظاهرة تاريخية وعالمية للناس معها تجارب وتجارب، ليغوص بعمق في ما بعد إلى ما وراء الظاهرة من سياسات عمومية واختلالات اجتماعية واضطراب في القيم والمعايير والتضامن والروابط الاجتماعية؟. فمثلا، حادثة إلغاء أضحية العيد عندنا، ورغم الاستجابة الواسعة لها من طرف المواطن، بل وانطباع الفرح بها أحيانا كثيرة، هل كانت الدواعي والحيثيات المتداولة مقنعة؟. هل أنقدنا القطيع الوطني أو في تدابيرنا ما سينقده؟، هل أوقفنا استيراد اللحوم الأجنبية وقد بلغت حوالي 20 % من الاستهلاك الوطني؟، هل السبب يكمن فعلا في الجفاف والتغييرات المناخية؟. كيف وفي دول الجوار أو حتى في دول المشرق لم يتم فيها الإلغاء وعندها نفس الظروف المناخية القاسية وأشد؟، كيف نتحدث عن الجفاف ونحن نزرع الخضر والفواكه الأكثر استهلاكا للماء مثل “الأفوكا” و”البطيخ” الأحمر..، ونصدرها إلى الخارج وكأننا نصدر الماء مجانا؟. أليس في هذا أيضا دخل للسياسة العمومية وتجاهل شكوى المواطن بغلاء الأسعار وقد أرهقت وألهبت حتى الطبقة المتوسطة فلم يعد بمقدورها تلبية حاجياتها الأساسية فبالأحرى تحريك المعهود منها من عجلة الاقتصاد؟. 

 

            وكذلك العديد من الظواهر الاجتماعية التي تحدث الكثير من الضجيج اليوم في الصحة والتعليم والتنمية والديمقراطية والريع والتطبيع..، مما هو أقصى جدي إلى ما هو أقصى هزلي يطرح السؤال الحارق: .. هل سنضمن الحق الدستوري للمواطن في الصحة بمجرد هذه القوافل الطبية المتجولة؟، أو حتى بنبت وفطر المصحات الخصوصية في المدن الكبرى؟، لماذا نفشل في محاربة الهدر المدرسي والجامعي رغم ما نمنحه للتلميذ (ة) والطالب (ة) من دعم وفرص لا تنتهي؟.  هل يمكن تحقيق الجودة وتكافؤ الفرص في المدرسة المغربية وهما غير موجودتان في المجتمع؟،  هل يمكن تدريس جيل لا تعني له المدرسة شيئا أي شيء، غير ما يحدث فيها من العنف والشغب وشتى أنواع الانحراف الذي يكون له جسرا من الإعلام والمحيط المدرسي إلى داخل الفصول الدراسية؟. ظواهر الفقر والهشاشة.. التفكك الأسري.. العزوف عن الزواج.. الهجرة القسرية.. العدوان الظالم على غزة والصمت والخذلان.. كبت الحريات.. التطرف.. المخدرات.. التفاهة.. “موازين” وفرضها والدفاع عنها بحجة الحضور الجماهيري المكثف والمتعدد الأذواق، مع العلم أن علاقة المهرجان لا بالفن ولا بالذوق أصلا تناقش، وأن من لم يحضروه ولا حتى شاهدوه عبر الشاشات أكثر كثافة وبالأضعاف؟، ولماذا “موازين” الرباط فقط وفي كثير من المدن وحتى القرى “موازين” و”موازين” في ترويجها للمخدرات لا تقصر وفي جرأتها على العفة لا تكل وفي إفسادها للذوق لا تنتهي؟. 

 

            ولكن، كيف بهذه المهرجانات تجد من سخاء الدعم وقوة البرمجة وجهود الإنجاز ما لا يجده غيرها من المشاكل التنموية الحقيقة للجماعات؟، على أي أساس علمي أو تنموي أم مجرد مصالح وصفقات وأكل أموال الجماعات بطرق تستعصي على الحسابات والمتابعات؟، لا تنمية حقيقية بدون دراسات علمية واقتصادية، سوسيو-ثقافية..  موضوعية ورصينة، تظهر حقيقة الظواهر والمعضلات الاجتماعية على حقيقتها خاصة وخاصة جوانبها البنيوية الخفية، لأن الظواهر في الغالب تخفي ما لا تظهره ولا يتسنى للفاعلين والمتدخلين مواجهتها بما يناسب وبشكل فعال دعما أو محاربة إلا بمعرفة الظاهر والخفي. ومن أجل ذلك لابد من دراسة الظاهرة/المشكلة من جميع جوانبها لأن طبيعة الأشياء أيضا أنها تكون معقدة ومركبة، نسقية ومنتظمة، لا يغني فيها التعاطي مع جزء واحد منها دون بقية الأجزاء. ثانيا، عدم الاكتفاء بالوجه البراق والدعائي للأشياء فقد تكون مزيفة غير حقيقية، وكذلك بين الدكتور “مارسيل كوبر” بعد 30 سنة من دراسته للسقي النقطي في المجال الفلاحي وفي العديد من الضيعات الفلاحية محل هذه التقنيات في مختلف الأحواض، فوجد أن هذا النوع من السقي (Goutte à Goutte) وعلى عكس ما يشاع عنه فهو لا يقتصد في استعمال الماء بل يسرف فيه بسبب الأحواض المائية التي يجمع فيها ويتبخر قبل الاستعمال وبعده، وهو أي السقي النقطي وراء تأثر الفرشة المائية العميقة وانقراض بعض المزروعات التقليدية والإيكولوجية وبطالة الشباب القروي وهجرتهم إلى المدن؟. 

الحبيب عكي

 

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي جريدة البديل السياسي