كتاب وآراء

فســـحـــة 1/؛…..بقلم ذ.محمادي راسي-

بقلم ذ.محمادي راسي- جريدة البديل السياسي 

فســـحـــة 1/؛

ـــــــــــــــــ

تغيمت السماء بالغمائم المتلبدة فصار لونها رماديا ،والفصل فصل الصيف ، فانغم القلب كمدا وكربا ، وزاده الجو المكفهر غمة ووحشة وكربة ،رياح شرقية، البحر هائج ،غادره المصطافون والنوارس ، فكان وحيدا موحشا ،تذكرت أغنية الشاطئ ؛[أين ما كان على الشاطئ …] لعبد الهادي بلخياط ، طفقت أمشي أتأمل المشهد الحزين الذي تحول من صيف إلى شتاء ،الأمواج تخرج أصواتها القوية من أحشاء اليم،تقذف الرمال والمحارات والصدف إلى الشاطئ …أصابني الهلع والخوف من غضب الطغم الذي كان هادئا،ثم أصبح هائجا، فظهر الراء ، وتخبر عن مجهوله مرآته، شرعت أهذي ، وأهرف بما لا أعرف ، أناجيه وأشكو إليه ما يختمر في ذهني ، وما يختلج في حيزومي ، كأنني مثل مطران في قصيدته التي يصف فيها المساء ، ويشكو إلى البحر اضطراب خواطره، وما يحز في نفسه ، استمررت في السير متأملا المنظر المكفهر ،تارة أجد سمكة ميتة ،أو رية البحر ، أو أوعية بلاستيكية وقصديرية وزجاجية لفظتها العلاجيم ،واسترعى انتباهي زجاجة مغلقة في جوفها ورقة ، أخذتها بشغف وشوق بسبب حب الاستطلاع الذي هو أم البلاء ، لما فتحتها وجدت فيها عنوانا مكتوبا بعدة لغات أجنبية؛ “يطلب من الذي سيجد هذه الزجاجة عليه أن يراسلنا إلى العنوان المذكور” …..وتارة أجد سروالا ، تبانا ،حذاء ،قميصا …ثم قفلت قلقا خائفا وجلا من أن يلفظ اليم جثة لمهاجر سري ، ستخيفني ،وسوف لا أنام طوال الليل ، لأن جثته ستبقى عالقة وحاضرة في ذهني ،في قفولي تذكرت الذين كانوا بالشاطئ ،بقيت آثار أقدامهم الحافية مرسومة على الرمال كالخاتم الإداري ،وأرجل الطيور والنوارس والغنم والكلاب والجعلان وانسياب الأفاعي ، شعرت كأنني في صحراء قاحلة ،أو أعرابي يهتم بالقيافة ،أو يقوم بضيعة العرب التي هي سياسة الإبل ….لقد رحل الكل، بقي الشاطئ يتيما حزينا صامدا في وجه الأمواج العاتية العالية ، ولكنها رغم عظمتها تفنى في الرمال، فلا تستطيع التدحرج أكثر ،السدر أخذ لون السماء الرمادي ،هديره السرمدي أقوى من هزيز الرياح ، يصل إلى سدرة المنتهى ،هذا الطغم شغل بال الناس والشعراء والكتاب والجغرافيين ،إنه سر الوجود ، وسرد الحوادث …رأى عجائب وغرائب ،يحملها في أحشائه الكامنة ،تذكرت شاعر النيل حافظ إبراهيم ؛

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي .

حينما أقف أمامه وهو في حالة الهيجان ؛تصيبني الرهبة والدهشة والحزن والخشوع ، يسبح لله ،كما تسبح الطيور الجاثمة وهي صاغية عاجزة عن الطيران ، لا يتغير ولا يتبدل في هيجانه وهدوئه ومده وجزره ،في وقوفي أمامه يذكرني بغرق فرعون الطاغي ، وبالآيات التي تتحدث عنه وفوائده ومنافعه ،وبصناعة نوح السفينة في البر حينما أمره الله بذلك، بينما الأعداء كانوا يضحكون مستفسرين عن اليم ، لأنهم كانوا كافرين ملحدين مشركين ، فغرقوا جميعا حينما حل الطوفان ، إلا ما كان في السفينة من بشر وحيوان …….والشاعر الإسباني “رفائيل البيرتي ” يقول للنوتيّ ؛

hablame del mar marinero

Cuentame que sientes

Alli, junto a el

أي ؛حدثني عن البحر ، وقل لي ماذا تحس به هناك ، وأنت بقربه .

فســــحـــة 2/ ؛

=====

في صبيحة مشمشة من فصل الشتاء تصبحت قليلا ،وبعد طفل الغداة ، مشيت كثيرا لترويض الجسم بالحركات الخفيفة ، مستغلا أشعة الشمس فوق البنفسجية النافعة ، وقد أبعدت المطلل الذي يحجب الرؤية ، ارتاض المكان المبلل بالطل الصافي كالثلج الناصع ، الأعشاب الغضة كلما وحفت إليها ،تفوح منها رائحة ذكية ،أنفاس الربى والريّا تصل إلى أعصاب المخ عبر الخياشيم ، البزّاق يرسم بخطوط لجينية لوحات تشكيلية فوق غديرة خضراء ، بعض الأشجار لم تسترد أوراقها التي تناثرت وتبعثرت في فصل الخريف ، عليها أن تنتظر إلى حلول فصل الربيع ….وهفت من البحر الفياح الذي كان هادئا ساكنا ، حسيس أمواجه ضعيف ، نسيمه يشرح صدري ،ينعش قلبي، يوقظ شعوري وإحساسي ، أديمه يترقرق بشعاع الغزالة ضاحكا ،وقفت قليلا؛ طفقت أتأمل معتمدا على الروية في الرواء ، بضم الراء والرواء بفتحه ، والأرض الريا ، والماء الطفيل ،شاعرا بطيب الريا الذي يسكرني شذاه ، يسحرني ،يجذبني إليه فؤوحه ،العشب أصابه الولخ ،أغصان الأشجار ألم بها الملدان ،تميس وتميد كأنها ترقص ، الطيور ترجع بصدحها وشدوها بعد هجرتها إلى بقاع أخرى قصية ….خطوت خطوات مودعا هذا الفضاء الجميل الهادئ …. إلى أن وصلت إلى الميناء الحافل بالشاحنات والعربات والسيارات والدرجات والراجلين ،الكل يتطلع لرؤية ما تحمله قوارب الصيد من سمك مختلف الأشكال والألوان ، النوارس وغيرها من الطيور تحوم لتحصل على نصيبها هي أيضا ، مثل الحشود الكثيرة ،والجماء الغفيرة.

تركت جلبة الميناء ،ونسيت قبلها احتجاجات الصيادين التي وصل صداها إلى ربوع الوطن عبر الشواطئ والموانئ ، دفاعا عن حقوقهم ،واصلت سيري في الشارع ،على يميني المؤسسات والأبناك والشركات ، وعلى يساري المقاهي وبعض الوكالات ، ورأيت شبابا يبحثون عن الكسع في القمامات ،متسكعين مكسعين ،ثيابهم رثة درنة ،أقدامهم حافية ، منتظرين الرحيل والمستحيل ، نزلوا أصحاء أقوياء ،ثم أصابتهم العلة والعلات إلى أن اعتلوا بعلة السموم القاتلة ،

عقليا وجسميا ، إنهم في حالة سيئة ،ووضعية مزرية صعبة شاقة …

شباب في ريعان شبابه وربيع عمره ضائع ، ناهيك عن أطفال يستجدون ،يتسولون ، يشمون السموم وكل ما هو بخس ورخيص ولكنه مضر ،سينعكس سلبا مدة عيشهم في هذه الحياة ،وسيأتي يوم لا ينفع فيه الندم ،ولا يرجى مما أصابهم الشفاء والرحمة ….دهاني القلق فأخناني ، ألم بي ألم فأضناني ،لما رأيته من فضاء الغربة والضياع والعبث ، بعد أن كنت في جو الهدوء والسكينة والاطمئنان والتأمل ، فضاعت وانمحت الصور الجميلة التي كانت عالقة في ذاكرتي ، استمررت في المشي إلى أن وصلت إلى ملتقى الطرق حيث النافورة القاحلة الماحلة ، تلعب فيها الكلاب الضالة بألاعيبها المعهودة ؛ تتهارش ، تمرش ،تمرغ ، تتعاظل ،لا يهمها الجالس ولا الراجل ولا الذاهب ولا القافل ، مياه النافورة تشبه الأمطار الموسمية ،فهي كذلك لا تتدفق إلا في المناسبات ، جلست في إحدى المقاهي لأتناول كأس شاي ، لنسيان تعب السير ، راقتني حركية الناس والسيارات ، في جميع اتجاهات والدوران للمدار ، إنها حشود تتجه إلى مليلة السليبة بسرعة كأنها في سباق ماراطوني ، إخالني أنني أمام شاشة سينمائية ، ترى سلوكات غريبة ناتجة عن سماسرة ،وأهل البخشيش والراشن والرشوة والبرطلة والحلوان والإكرامية ، رغم أن اللوحات الإشهارية الكبيرة المنتصبة المثبتة في الطريق الرئيسي تحمل شعارا ؛”لا للرشوة ” للتذكير والتنبيه والتحذير … لا للتزيين …..اا.وبعد ذلك انتقلت إلى فضاء “قاليطا ” caleta، و”الكلمة إسبانية تعني خليج صغير “، تذكرت قصيدة المتنبي ؛ في وصف “شعب بوان” ؛مغاني الشعب طيبا في المغاني // بمنزلة الربيع من الزمان .

ولم أكن غريب اليد واللسان ، شعرت كأنني في جميع المدن المغربية لاختلاف اللغة من ؛ريفية وشلحية وعربية عامية ” دارجة “وسوسية ، والشوارع كأنها أسواق تعرض فيها ما هو جديد وقديم ، مقهى بجوار مطعم ، دكان بجوار مستودع ، أمكنة لخزن السلع ، شابات ونساء يصنعن الفطيرة والمسمنة والثريدة والعصيدة والعجينة المحشية المقلية والحساء ، وغيرها من المأكولات الشعبية الخفيفة ، التي عليها إقبال كبير من طرف معظم الناس في الصباح والمساء .أكلات خفيفة اقتصادية كلفتها غير مكلفة ….وكل واحد في هذا الفضاء ، ينظر يرسل الألحاظ إلى جميع الجهات ،يود الوصل والوصال والاتصال ، يراقب ويترقب وينتظر الوصول …وهو نظور دائم الانتظار …. ولا يأبه لما يحدث من غرائب وعجائب …. ولا يؤبه له …وراء هذه الأزقة توجد “الجوطية ” الحافلة بما هو جديد متين ، وقديم مستهلك ،هش رث من رثيث، يبيعه تاجر الرثاث ،وما صغر وتفرق من الأمتعة يقوم ببيعه الخردجيّ ، وغير الخردجيّ ….من دسار صغير إلى آلة كبيرة ، وكتب قديمة وجديدة باللغة الاسبانية والعربية والفرنسية وغيرها ….، وروايات لكبار الكتاب من مختلف الدول ، من ؛ “بيو باروخ “و”ماتشادو”، و “روبن داريو”، و”همنجواي” …. ومعاجم في الاقتصاد واللغة …وذات مرة عاينت كتابا يحمل عنوانا :”إل غران تياترو ذل موندو” ؛ / el gran teatro del mundo/ ل “بيدرو كالدرون دي لا ربكا” أي؛ “أعظم مسرح في العالم ” ،ورواية “طالسمان ” 1984م لستيفن كنغ” ،و”بيتر ستوب “، “مترجمة ، تختلف عن رواية طالسمان ل “والتر سكوت “1825 م ،وقلت في نفسي مؤلفات نفيسة تلقى على أتربة تسفيها الرياح الغربية والشرقية والنكباء ، بدلا من أن تكون مصونة محفوظة في رفوف ، ففي “الجوطية “أشياء لها قيمة كلما كانت قديمة ونادرة ،ثم تصبح نفيسة وثمينة ، وكلما قل الشيء زاد ثمنه ، فقد تجد أقلام المداد؛ ك “بركير” المشهورة ،”وكريوزير “وساعات يدوية ك:”كاوني “و”دوغما “و”فستينا “…..ااا ، ولوحات لبعض الفنانين ،لا ينتبه إليها الإنسان العادي ،مع أنها تحمل دلالات تاريخية وتراثية …ولكن أحيانا لا تكون مرتاح البال لما يعرض في” الجوطية “..فقد يوجد في النهر، مالا يوجد في البحر ….؟؟.

وفي هذا الفضاء لا بد من الحيطة والحذر…لأن هناك من يمعل ويمتلز الأشياء ……؟وأنت في غفلة تستهويك أشياء ،وتغويك لأنها رخيصة، ثمنها بخس ، ولكنها ستكلفك كلفة مكلفة ، وربما ستجرك إلى أمور لم تتوقعها ، ولم تكن في الحسبان …فالفسحة الفسحة في الطبيعة أفضل صحيا ونفسيا …ااا، لأن زلفك من الصخب والغذمرة والضوضاء والغوغاء ، سيجعلك تعيش لحظات قلقة مؤلمة ، لما تراه من منكر وبؤس وخداع وغش ،وسلوك مشين ،وهمش وهمط وهبط ،وعجرفة خاوية ،وتقوّل وادعاء ، وأشربوك ما لم تشرب ، ولكن شعاع الشمس لا يخفى ،ونور الحق لا يطفى ،فالحق أبلج ،والباطل لجلج .

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار