البديل الرياضي

عبد المجيد الظلمي.. نجم الكرة المغربية الذي عشقه الجميع

جريدة البديل السياسي : متابعة

يحكى أنه في إحدى الليالي من البطولة المغربية، كان نادي الرجاء الرياضي البيضاوي يواجه فريق المغربي الفاسي، سليل مدينة فاس، دخل اللاعبون إلى أرضية الملعب، فصاحت الجماهير الفاسية “شايلاه أ مولاي إدريس أ مول القبة خضراء”، و”شايلاه” هنا كلمة تعني التبرك، أما مولاي إدريس صاحب القبة الخضراء فهو مولاي إدريس الثاني، ثاني حاكم مسلم في إمارة الأدارسة التي تأسست في عصر العباسيين بالمغرب الأقصى.

لم يكن جمهور الرجاء ليَسكُت أمام هتاف الجماهير الفاسية المنافسة، فكان الرد ساخرا جدا وحقيقيا إلى أبعد حد، فقد رددوا “شايلاه أ الظلمي، أ مول النمرة 4″، فإن كان الفاسيون قد تبركوا بمولاي إدريس الميت، فقد تبرَّكت جماهير الفريق البيضاوي بصاحب الرقم 4 (الظلمي)، الذي يحلو للجماهير المغربية مناداته بـ”المعلم”.

 

في 19 أبريل/نيسان 1953، ولد “عبد المجيد الظلمي” في درب السلطان، ذلك الحي التاريخي بمدينة الدار البيضاء، والمعقل الأساسي لنادي الرجاء الرياضي، صاحب الشعبية الجارفة داخل “كازابلانكا” وخارجها. جاء مولد اللاعب المغربي السابق بعد مرور 4 سنوات فقط على تأسيس نادي الرجاء الرياضي الذي رأى النور في مارس/آذار 1949 وصار الظلمي بعد ذلك أحد أبرز لاعبيه، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق.

تبدأ قصة “المعلم” أو “الأستاذ”، كما يصفه الجمهور المغربي، بطريقة كلاسيكية للغاية، فقد بدأ طفلا صغيرا لا يملك وسيلة للتسلية سوى كرة القدم، مثله مثل جميع أطفال الأحياء الشعبية في مدينة الدار البيضاء، حتى وقعت عليه عين “محمد رحيمي” الشهير بـ”يوعري”*، حامل أمتعة الرجاء، ووالد “سفيان رحيمي”، لاعب المنتخب المغربي المحترف حاليا بنادي العين الإماراتي وأحد أبرز الغائبين عن مونديال قطر 2022.

رأى* اليوعري في الطفل عبد المجيد الظلمي موهبة عادية، ليست خارقة ولا استثنائية، لكنه على كل حال كان موهوبا، فقدم به إلى نادي الرجاء الرياضي بداية الستينيات. وكما هي العادة، كان اهتمام الأطفال بالمراكز المتقدمة في الملعب، وسط الميدان الهجومي أو الهجوم، ولذا وُظِّف الظلمي في مركز المهاجم الأيمن، صحيح أن بنيته الجسدية كانت هزيلة، وصحيح أنه لم يمتلك سرعة المهاجمين واندفاعهم، لكنه كان جيدا بما يكفي ليستمر للعب للفئات السنية المختلفة لنادي الرجاء الرياضي. وفي عام 1971 التحق الظلمي بشبان الرجاء الرياضي، وظل في موقعه كجناح عندما تم تصعيده عام 1972 إلى الفريق الأول، حيث لعب أول مباراة رسمية له بقميص الفريق الأخضر أمام فريق رجاء بني ملال.

عبد المجيد الظلمي (مواقع التواصل الاجتماعي)

لم يكن الظلمي مجرد لاعب في نادي الرجاء الرياضي، بل رمزا من رموز فترة “اللعب الجميل” التي تفخر بها جماهير النادي حتى الآن. ففي تلك الفترة لعب النادي البيضاوي كرة يمكن وصفها بـ “البوهيمية”، إذ لعب للفرجة ولم يضع تحصيل الألقاب أولوية له، ولذلك لم يفز النادي بأي لقب منذ تأسيسه، سوى كأس عرش وحيدة عام 1974، فيما أحرز أول لقب له بالبطولة المغربية المحلية عام 1988، بعد أن كان الظلمي قد رحل عن النادي، ثم فاز الرجاء بعد ذلك بدوري أبطال إفريقيا مفتتحا مرحلة تزويد خزانة النادي بالألقاب.

كانت هذه بداية تقليدية للغاية، كلاسيكية جدا للتعريف بهذا اللاعب المهم في تاريخ الكرة المغربية للقارئ العربي، والآن حان الوقت للانتقال إلى الصفحة المهمة في تاريخ الظلمي، فقد عُرِف عن الظلمي كرويا تقنياته العالية، وتفنُّنه في “القنطرات الصغيرة” (تمرير الكرة بين أرجل اللاعبين)، ورغم قصر قامته، كان قادرا على القفز بعيدا وافتكاك الكرة من لاعبين يفوقونه طولا وحجما.

 

“هل تعلمون من هم أفضل 5 لاعبين شاهدتهم؟ هم مارادونا وروماريو وزيدان وميسي والظلمي، أنا لا أسخر، أنا أقسم لك أن الظلمي ليس صاحب المركز الخامس بينهم”

(مصطفى البياز، اللاعب الدولي السابق)

تُعرَف مدينة الدار البيضاء بالرسم على الحيطان، وفي إحدى الرسومات نجد صورة للعربي باطما، المغني الشهير في مجموعة “ناس الغيوان” المغربية الشهيرة، وبجانب صورة باطما كُتبت جملة بالإيطالية: “باطما، أولتراس مثلنا”. ويدل اللون الأخضر على أن جماهير الرجاء هي صاحبة الرسم. عُرف عن مجموعة ناس الغيوان نَفَسُها “الاحتجاجي”، وعرف عن العربي باطما قصة شعره السبعينية الشهيرة، وكانت هذه الروح المغربية تسري في الكثير من الأشخاص والأشياء في مغرب الأمس، وأحد الأشخاص الذين تظهر عليهم هذه الروح هو بالطبع عبد المجيد الظلمي.

 

لم يكن نجم الرجاء والمنتخب المغربي السابق يتكلم كثيرا، ولم يكن يحب أي شيء يضعه تحت الأضواء. ولسوء حظه، كان أحد أكثر اللاعبين مهارة في تاريخ منتصف ملعب الكرة المغربية، فحكى زميله في المنتخب المغربي “مصطفى البياز” عنه وكيف كان الظلمي الحل الوحيد للمنتخب في المباريات الكبرى التي خشيها اللاعبون. وقد بحث عنه خط الدفاع كلما تحصَّل على الكرة، لكن الظلمي أحيانا ما فضَّل الاختباء، ليس رهبة، ولكن خجلا من أن يكون هو النجم أو الشخص المنوط به لعب دور صانع الحل دائما، وإن كان دوره في الملعب كمتوسط ميدان دفاعي يطالبه بذلك.

هذه الشخصية الكتومة والخجولة كانت مختلفة جدا في الأماكن المغلقة، وقد حكى البياز عن هذا الجزء المختلف عن شخصية الظلمي قائلا: “عندما وصلت إلى المنتخب الوطني كنت معجبا كثيرا بهذا اللاعب الفذ، كنت أنظر إليه وأحاول الجلوس بجانبه والنظر إلى كيف يتصرف، في أول حضور لي كنا في البرازيل، حينها أخذ الظلمي الكلمة للاحتجاج على وضعية اللاعبين الآخرين الذين أصيبوا وتُركوا يواجهون مصيرهم وحدهم”.

كان اللاعب المغربي السابق قياديا في الملعب وفي الإضرابات والاحتجاجات التي طالبت بحقوق اللاعبين، ففي كل مرة يأخذ فيها الكلمة أثناء تجمعات المنتخب المغربي كان هدفه الاحتجاج على شيء ما، مثل الأكل والتغذية أو طريقة التعامل مع اللاعبين أو التهديد بعدم اللعب لهذا السبب أو ذاك، وهو ما رآه بعض لاعبي المنتخب تحديا لجهاز الكرة وسببا كافيا قد يدفع المسؤولين المغاربة إلى طرده من المعسكر، بيد أن هذا لم يحدث، إذ لم يكن هناك بديل للظلمي في أي فريق لعب فيه، يقول زميله السابق البياز معلقا على هذا الأمر: “كان يصل دائما ومنشفة العرق فوق رأسه، كنت سأجن، كان يذهب إلى حدود بعيدة يصعب تصورها، في يوم ما كنا في الطائرة وكنا نسمع الموسيقى، وكان مسؤولو الجامعة (اتحاد الكرة) يوبخونني، لكن أحدا لم يجرؤ على الكلام مع الظلمي”.

 

(عبد المجيد الظلمي)

يقول “سايمون كريتشلي” في كتابه “فيمَ نفكر حينما نفكر في كرة القدم؟” إن الاشتراكية هي الشكل السياسي الذي يلائم كرة القدم، وذلك لأن الأداء الفردي ينصهر انصهارا كاملا في أداء الجماعة، على عكس الرياضات الفردية مثل التنس أو السباحة أو العدو. ولذلك نجد حسب الكاتب هذه الفكرة وهذا الوجدان اليساري للعبة حاضرا عند الأسطورة البرازيلية “سقراط”، أو اللاعب الألماني الماركسي “بول برايتنر”، أو حتى في تصريح سابق لـ”خافيير زانيتي”، نجم نادي إنتر ميلان والمنتخب الأرجنتيني السابق حينما قال: “حقا إن الاشتراكية التي أؤمن بها لا تتعلق بالسياسة، بل هي أسلوب حياة، إنها الإنسانية، إنني أؤمن أن العمل الجماعي هو أفضل الطرق عيشا، وأنجع السبل، حيث يكون كل إنسان في خدمة الآخر، ويكون لكل إنسان نصيب من الكعكة في آخر اليوم”.

في إحدى الليالي الشتوية بمدينة أكادير المغربية، أتيحت لي فرصة لقاء عبد المجيد الظلمي، كان ذلك خلال إحدى السهرات التكريمية لعدد من اللاعبين الذين كان من بينهم الظلمي نفسه، لم يكن الظلمي يحب الصحافة أو الإعلام، ومن ثَمّ لم يدم اللقاء طويلا، نطق الظلمي ببعض الكلمات المجاملة التي لم أتبيَّنها جيدا، وفاتت حينها فرصة الحديث مع أسطورة الرجاء وأخذ رأيه في الأزمات التي ضربت بعمق النادي البيضاوي آنذاك.

لا يمكننا الحديث عن الأفكار السياسية للظلمي، فهو -وإن كان لا يحب الحديث عن الكرة نفسها التي تألق فيها- في حديثه عن السياسة أقل حضورا، إذ يفضل نجم المنتخب المغربي السابق بحسب “رضى العلالي”، الصحفي ومغني فريق “هوبا هوبا سبيريت”، الحديث عن الموسيقى والسينما، فهو المغرم بموسيقى السبعينيات. ورغم ذلك، انحاز الظلمي نحو قيم اليسار، وليس نحو اليسار نفسه*، فهو لم يكن ماركسيا لينينيا، بل محتجا شعبيا يتحدث دون التفكير كثيرا في الأيديولوجيا، وإن كان قد زار قسم الشرطة للاشتباه في نشاطه مع منظمة “إلى الأمام” الماركسية.

كان للظلمي صديق مقرب يدعى “عبد الله زعزاع”، وهو مناضل يساري ماركسي وأحد أبرز قيادات حركة “إلى الأمام” حُكم عليه بالسجن المؤبد بعد اعتقاله عام 1975، حيث قضى 14 سنة قبل أن يخرج بعفو ملكي عام 1989. وفي يوم من الأيام، كان الظلمي في طريقه إلى المنزل، فلَقِيَتْه أمُّ صديقه “زعزاع” وهي تبكي بعد غياب ابنها لأيام عن المنزل، خصوصا مع مواصلة رجال الشرطة زياراتهم لمنزله بحثا عنه. ذهب الظلمي إلى أحد المنازل بمنطقة “بوركون” التي علم أن صديقه يتردد عليها بين الفينة والأخرى، فكانت الشرطة نفسها هي التي فتحت الباب، واعتُقل نجم الرجاء الذي كان قد توِّج للتو ببطولة كأس العرش مع النادي البيضاوي. في النهاية، تمكن اللاعب “الرجاوي” من الخروج من القسم بعد تدخُّل شخصيات رياضية مهمة، ومن ثَمّ أُطلِق سراحه وكُتب له عُمر جديد، كما قال له الشرطي الذي فك القيد عنه حينئذ.

لم يكن اهتمام الظلمي بالسياسة كبيرا، لكنه لم يستطع السكوت في وجه أي ظلم رآه، هكذا تحدث عن نفسه. بيد أن الظلمي رغم ذلك كان محبوبا من الملك الحسن الثاني، الذي أصرَّ على أن يكون الظلمي الناجي الوحيد من مجزرة طرد لاعبي منتخب 1979، فإبّان إقصائيات الألعاب الأولمبية موسكو 1980، واجه المغرب في الدور الثاني المنتخب الجزائري في ذروة الخلاف السياسي بين البلدين، وانهزم المغاربة بخماسية مقابل هدف واحد، ومن ثَمّ انتهى وجود الجيل الذي فاز بـ”كان 1976″ داخل المنتخب، وبدأ صعود جيل الزاكي والتيمومي وبودربالة، لكن القاسم الوحيد المشترك بين الجيلين كان الظلمي، أحد الناجين القلائل بسبب المعزَّة الخاصة التي كنَّها له الملك الحسن الثاني.

بعد وفاة الظلمي في يوليو/تموز 2017، بعث الملك محمد السادس ببرقية تعزية إلى أسرته، إذ جاء في الرسالة: “لقد فقد المغرب بوفاته أحد أبرز اللاعبين في كرة القدم، المشهود له بعطائه الحافل خلال أزيد من عشرين سنة، سواء داخل نادي الرجاء الرياضي، أو في صفوف الجيل الذهبي للمنتخب الوطني، خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. فكان رحمه الله نموذجا للرياضي الكبير، بفنياته وتقنياته العالية، حتى لُقب بالمايسترو، وبالالتزام والهدوء والروح الرياضية والتنافسية العالية”. ولم يكن الملك وحده مَن عزَّى في نجم المنتخب السابق، بل حتى جماعة العدل والإحسان المعارضة للقصر سابقت إلى ذلك. وكما قال الصحفي المغربي رضى العلالي ذات مرة: “كان الظلمي مثله مثل العربي باطما، الكل في المغرب يحس بأنه ينتمي إليه”.

 

 

 

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار