كتاب وآراء

ضيف غريب…بقلم عبد القادر بوراص

جريدة البديل السياسي

ضيـــــــــف غريــــــــــــــــــــــــــب

بقلــــــم الأستاذ عبد القادر بـــــــــــــــوراص

انصرف المشيعون فرادى ومثنى وزرافات يتخطون القبور المبعثرة بغير نظام في أرجاء المقبرة المرمية بالطرف الجنوبي للمدينة بعد أن تابعوا بعيون شاخصة وبغير اهتمام ولا مبالاة مراسيم الدفن، وتنفسوا الصعداء حين أطلق الفقيه سراحهم بختمه الدعاء للميت والصلاة على خير الخلق وآله وصحبه، فيما تباطأت شرذمة الفقهاء المناسباتيين في مغادرة المكان إلى حين توصلهم بأجرتهم الزهيدة مقابل قراءتهم القرآنية غير المتناسقة بأصواتهم الخشنة العالية التي قَضَّتْ مضجع الأموات قبل الأحياء. كانت قراءتهم تساير في سرعتها وبطئها وتيرة سواعد بعض الشبان وهم يجرفون بمعاول ومجرفات صدئة ومتآكلة أكوام التراب وينهالون بها دون رحمة ولا شفقة فوق جسد المتوفى الذي وُضِعَ بعناية داخل لَحْدِه الضيق وخلف وراء ظهره منزلا بعدة طوابق. أطفال في عمر الزهور تلقوا بدورهم دريهات قليلة نظير توفيرهم قنينات ماء جلبوه من بركة راكدة بالوادي الجاف الذي تطل عليه المقبرة، وانطلقوا ضاحكين فرحين غير آبهين بمن طُمِرَ تحت التراب ولا بحزن أهله الذين تركوه وحيدا وغادروا المكان بخطى متثاقلة وفي صمت رهيب قبل أن يكسره أحدهم بنهره لبعض النسوة اللواتي وقفن خلف سور المقبرة القصير يتابعن عملية الدفن دون أن يكففن عن ثرثرتهن ولَغْوِهِنَّ وبكائهن المتقطع.

اندس المدعون داخل خيمة قديمة رقعت بعض أجزائها وانغمسوا في أحاديث جانبية همت موجة الغلاء وارتفاع الأسعار والحرب الروسية الأكرانية وأحداث غ ز ة وتأخر تساقط الأمطار والوضع الصحي الكارثي بالمستشفيات العمومية وغيرها من مواضيع الساعة قبل أن تفرض عليهم المجموعة الإنشادية المتكونة من شيخين مسنين وثلاثة شبان أكبرهم لم يتجاوز عقده الثالث الصمت حين انطلقوا في ترديد أمداح نبوية شجية تخللتها تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم. الكثير من الحاضرين كانوا شاردين ومستغرقين في عالم آخر غير مجلس الإرشاد والذكر هذا وإن كان بعضهم يتظاهرون أحيانا بالخشوع من خلال هز رؤوسهم وتمتمة مبهمة على شفاههم.

اقتحم الجمع المبارك على حين غفلة رجل مفتول العضلات، عريض الوجه، وقد ارتسمت على جبهته خالة سوداء تخللتها بثر حمراء وأخرى تميل قليلا للصفرة والبياض بفعل صديد القيح، وتدلت على صدره الضخم كملاكم لحية كثيفة ضَمَّخَها بالحنَّاء لإخفاء ما شاب منها، وارتدى لباسا أفغانيا قصيرا امتد إلى ما تحت ركبتيه بقليل، ووضع طاقية غطت نصف رأسه الحليق بطريقة شبابية، وانتعل حذاءً عسكريا من قماش متين أخضر وذا كعب ضخم، فأصبح مثار تهكم بعض الحاضرين. ألقى تحية طويلة كانت تمهيدا لدرسه الماراثوني الممل الذي تمحور حول خروج الناس عن الدين واتباعهم شهوات الشيطان اللعين، مهددا ومتوعدا إياهم بعذاب جهنم وبئس المصير وهو ينظر بغضب صوب فئة من الشباب الذين انخرطوا في حديث جانبي بينهم تخلله ضحك مسموع، ورفع يده إلى السماء صارخا وقد امتلأت شفتاه بزبد ريقه بأن النار وقودها الناس والحجارة وما أكثرهم بيننا، قبل أن تخمد ثورة سخطه ويتقمص دور المنقذ لهم من هذا المصير المشؤوم ويدعوهم إلى العمل بجملة من النصائح الغريبة التي أسداها لهم من قبيل منع النساء من الخروج عملا بقول الأسلاف الصالحين بحسب تعبيره: “للمرأة خرجتان اثنتان في حياتها، الأولى من بطن أمها والثانية إلى بيت زوجها”، كما حرم عليها طلب العلم لأنها خلقت لأشغال البيت وتربية الأطفال، واعتبر كل رجل يسمح بخروج بناته من البيت دون ولي ديوثا يحشر مع القردة والخنازير.

وواصل تقديم أمور أخرى منها الدين بريء براءة الذئب من دم يوسف وهو يتأمل الوجوه المحملقة فيه ويحاول استغوار دواخل أصحابها إن كانوا مقتنعين بكلامه، وحتى يتقين عين اليقين سأل أحد الجالسين عن رأيه في درسه الذي وصفه بالتربوي، فتثاءب الرجل فاتحا فاه عن مصراعيه حتى ظهرت نواجذه قبل أن يرد عليه بلهجة لا تخلو من تهكم واضح أنه لن يسامحه لأن درسه الذي لم يفقه منه شيئا تسبب في تأخر وجبة العشاء التي لا شك أنها ستكون دسمة بمرقها ولحمها الذي لم يتذوقه منذ عيد الأضحى الأخير، ونظر إلى صاحب الصدقة مستنجدا به لتحريره من هذا الوافد الدخيل على هذا الجمع المبارك. وسرعان ما تحلق المدعوون حول الطاولات التي تربعت على عروشها صحون كبيرة ترصعت هامتها بدجاج سمين وقطع لحم كاملة النضوج، وحضرت المشروبات الغازية التي دعت أكثر من جهة لمقاطعتها، وفواكه مختلفة أنواعها وألوانها وأحجامها ومذاقها.

لفظت الخيمة الضيف الغريب الذي تطفل على الجمع دون دعوة من صاحب الدار وابتلعه ظلام الدرب الضيق وهو يهلل ويكبر وقد شهر سيفا حادا يتوعد به الكفار المارقين، قبل أن تلتقطه دورية للأمن الوطني ويجد نفسه بمخفر الشرطة وهو يردد بجنون: “جئت لأنقذكم من نار وقودها الناس والحجارة”، وظل على هذا الحال إلى أن عُرِضَ على طبيب نفساني لِيُقِرَّ أنه مختل فاقد العقل.

* ملحوظة: شخصيات الأقصوصة وهمية وكل تشابه معها فهو غير مقصود.

 

 

 

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار