زعماء نقابيون في قلب أعنف المظاهرات العُمالية
جريدة البديل السياسي
«مظاهرة آسفي سنة 1955 تبقى واحدة من أهم الإضرابات العمالية المنسية التي عرفها المغرب، سبب المظاهرة كان رغبة الصيادين التقليديين في التعبير عن تضامنهم مع أحداث عرفتها مدينة مكناس، لكن القمع الذي ووجهت به مظاهرة الصيادين كان كبيرا. البوليس الذي كانت تشرف عليه فرنسا لم يتردد في الإجهاز على المظاهرة، رغم أنها كانت سلمية.
هذا النشاط العمالي، كان بداية لتألق العمل النقابي في المغرب مع ظهور بوادر انفراج في القضية الوطنية. ومع الاستقلال، عرف المغرب محطات نقابية مهمة.
زعماء نقابيون صنعوا تاريخ الإضرابات، وواجهوا الحكومات المتعاقبة، وضربوا الطاولات للخروج بصيغ معدلة من قانون الإضراب، وعمّروا في كراسيهم طويلا وهم يخوضون حرب ضروسا في صراع قديم، كان يتجدد كل فاتح ماي..».
وثائق «ويكيليكس» فضحت تخوف الفرنسيين وفشل اكديرة والبصري أمام الإضرابات
عندما تسربت الحزمة الثانية من وثائق «ويكيليكس» الشهيرة سنة 2012، كان من ضمنها ما يزيد على خمس وثائق تتحدث عن اجتماعات بين الوزير الراحل أحمد رضا اكديرة ومسؤولين فرنسيين، بحضور السفير الفرنسي في الرباط، وإدريس البصري، وزير الداخلية.
فحوى الاجتماعات، كان تخوف الفرنسيين الشديد من أزمة الإضرابات التي انطلقت في المغرب أواسط الثمانينيات.
واحدة من تلك الوثائق، وكانت تحمل الترقيم التالي: A-1856، وتعود إلى فترة الثالث والرابع من نونبر 1982، جاء فيها أن أحمد رضا اكديرة كان يطمن المسؤولين الفرنسيين ويخبرهم أن الحكومة سوف تراعي مصالح المستثمرين الأجانب في حوارها مع النقابات، وسوف تعمل على الحد من الإضرابات التي شلت قطاع المعامل المملوكة لفرنسيين يستثمرون أموالهم في المغرب، خصوصا في قطاعات النسيج ومعامل التصدير. لكن إدريس البصري كان له رأي آخر، فقد أخبر السفير الفرنسي في الاجتماع أنه لا يستبعد أن تستفحل الإضرابات، سيما وأن الوضعية الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد، وآثار الجفاف الخانق، كلها أزمت الوضع، وزاد من حدتها ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.
حتى أن إدريس البصري أضاف أنه لا يضمن لهؤلاء المستثمرين أن يستمروا في أعمالهم بدون أن يراعوا على الأقل مسألة الأجور، التي تعتبر حجر الزاوية في مطالب النقابيين، وتوقع أن تشهد السنة الجارية إضرابات أخرى.
الوثيقة تقول إن المسؤولين الفرنسيين تلقوا تطمينات من رضا اكديرة أخبرهم فيها أنه سوف يعمل على ضمان عدم تضرر الاقتصاد، بسبب شلل الإضرابات، بينما إدريس البصري لم يضف أي معلومات أخرى عن الكلام الذي قاله.
الواضح أن وزير الداخلية، الذي كانت له صولات وجولات مع النقابيين، خصوصا مع نوبير الأموي والمحجوب بن الصديق، ومحمد عبد الرزاق، كان يعرف أن الإضرابات لا يمكن أن تتوقف، خصوصا وأن المركزيات النقابية كانت ترفع شعارات بضرورة تحسين الوضع الاجتماعي للعمال، في حين أن أغلب المعامل المتركزة في التجمعات الكبرى، سيما بالدار البيضاء، لم تكن تحترم المعايير، كما أن الحد الأدنى للأجور كان في أدنى مستوياته تاريخيا.
وثائق «ويكيليكس»، التي غطت هذا الموضوع، والصادرة عن السفارة الأمريكية في الرباط، تقول إن المسؤولين الفرنسيين التقوا بنظرائهم في سفارة أمريكا بالرباط، وأخبروا السفير الأمريكي أنهم غير مرتاحين للتطمينات التي تلقوها من كل من أحمد رضا اكديرة وإدريس البصري، بل وأضافوا أنهم غير مطمئنين لمسألة الاعتقالات وقمع المظاهرات، وما يمكن أن تجره على المستثمرين الفرنسيين من مشاكل، خصوصا وأن ملفات حقوقية ثقيلة في المغرب لها علاقة مباشرة بأنشطة النقابيين المغاربة، كانت تتلقى دعما كبيرا من اليسار الفرنسي، وتُحرج صداقة المغرب وفرنسا.
اختفاء الحسين المانوزي، أحد أشهر النشطاء النقابيين في ستينيات القرن الماضي، واغتيال عمر بنجلون المعروف بأنشطته النقابية، ولاحقا تعرض نوبير الأموي، القيادي النقابي الآخر، للسجن والمضايقات، بسبب أنشطته النقابية، كلها ملفات أزمت مسألة الإضرابات، وزادت من حدة سوء الفهم الكبير بين وزير الداخلية إدريس البصري وبين المركزيات النقابية، في فترة الثمانينيات والتسعينيات. وهي الفترة التي شهدت إضرابات عرفت اختطافات وتجاوزات حقوقية، لم تُطو إلا بمجيء هيئة الإنصاف والمصالحة.
قانون الإضراب.. مهمة مستحيلة وضعت النقابات على صفيح ساخن لعقود
إضراب أبريل سنة 1979، كان واحدا من أشهر المحطات التي امتُحنت فيها الحكومة المغربية في تفاعلها مع الإضراب الذي دعت إليه النقابات.
السياق العام كان يسوده التوتر. اليسار غيّر ترتيب أوراقه، واجتمع عبد الرحيم بوعبيد مع أنصاره وكان التغيير يخيم على الجو العام. طُويت مرحلة المهدي بن بركة، وحلت مرحلة بوعبيد ومن معه، واسم الحزب كان لا بد أن يتغير، بموجب مقتضيات المؤتمر الأخير للحزب، ليصبح اسمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وكما تغيرت صفوف القيادة، تغيرت أيضا صفوف النقابة، وبرز اسم نوبير الأموي بقوة، والذي قاد بنفسه مرحلة الثمانينيات، وقادته مواقفه الحادة إلى السجن في أكثر من مناسبة.
هذا التغير السياسي، ساهم في تغير أداء النقابة لفترة الثمانينيات والتسعينيات.
بينما الحكومة كانت شبه مستقرة في ذلك الوقت. لم تحدث تغيرات كثيرة، واتُهمت وزارة الداخلية في عهد الوزير بنهيمة بتزوير الانتخابات، وكان البرلمان يغلي أثناء مداخلات المعارضة التي كالت الاتهامات تلو الأخرى للحكومة.
من جهة أخرى، كان إدريس البصري قد ارتدى لتوه جلباب الداخلية، وأعاد ترتيب الوزارة من الداخل لكي تكون على مقاسه.
كانت الاجتماعات الوزارية في هذه الظروف تشبه المشي في حقل من الألغام، إذ إن المقترحات الحكومية بخصوص موضوع الحوار الاجتماعي مع النقابات كانت دائما تنتهي بمهاجمة الحكومة في صحف المعارضة، واتهامها بأنها تقف ضد المطالب الشعبية، وضد القدرة الشرائية للمواطنين واستقرارهم الاقتصادي.
زاد من تأزيم الوضع، الأزمة الاقتصادية وازدياد حدة الجفاف، وهو ما جعل مسألة التحكم في الأسعار صعبة للغاية. وكان إدريس البصري يخرج وقتها ليهدد النقابات في اجتماعات تدعى إليها المنابر الرسمية، ويوجه خطابه إلى المركزيات النقابية، متوعدا بمواجهة الإضرابات.
ما وقع في أحداث 1981 في الدار البيضاء، وأحداث 1984 التي خرجت فيها مظاهرات عمالية في عدد من المدن، بالإضافة إلى أحداث فاس في 1990، كلها محطات كانت ترجمة لهذا التوتر الكبير بين النقابات ووزارة الداخلية، خصوصا وأن قمع المتظاهرين واستعمال الرصاص الحي لتفريقهم كلها عوامل جعلت المعارضة النقابية تصبح شرسة، وتشل حركة المعامل، وهو ما تسبب في أضرار كبرى للاقتصاد.
من جهة أخرى، لم تكن الحكومة قد أفلحت طوال تلك السنوات في سن قانون إضراب مرن، يضمن حقوق النقابيين المتظاهرين، دون المساس بمصالح أرباب المقاولات. وبعض الكواليس كان يتردد فيها أن إدريس البصري كان المسؤول الأول عن هذا الفشل، لأنه كان ينظر إلى الموضوع بتعنت من نوع خاص، وجعل المواجهة بين وزارته وبين المركزيات النقابية مسألة شخصية، لازمته طويلا.
أول امتحان حكومي مع النقابات بعيني عبد الله إبراهيم
في العام 1956، وتجربة حكومة البكاي الثانية تتقدم ببطء شديد لتفقد الملفات، الواحد تلو الآخر، تحت ضغط كبير أثّر كثيرا على انسجام مكونات الحكومة، تفجر ملف التنظيم النقابي في المغرب. وكان وزير التشغيل وقتها هو عبد الله إبراهيم، والذي رغم شخصيته وما راكمه في العمل الحزبي والحركة الوطنية، لم يصمد طويلا أمام المد.
فقد كان الإرث الذي تركته الحماية يزيد من الفوضى التي يعرفها مجال النقابة في المغرب، خصوصا وأن التأطير العمالي كان على أشده، والانقسام السياسي الذي تمخض عنه ميلاد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان يلوح في الأفق.
في مذكراته، التي جمعها الباحث المغربي محمد لومة، واختار لها عنوان «سنوات الصمود وسط الإعصار»، يحكي عبد الله إبراهيم عن «معاناته» الشخصية مع ملف التنظيم النقابي في المغرب، عندما كان وزيرا للتشغيل في حكومة البكاي.
يقول:
«عندما استلمت مسؤولية وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية في حكومة البكاي الثانية، وجدت نفسي مضطرا إلى خوض معركة حامية الوطيس على واجهة إصدار التشريع الوطني الخاص بالنقابات على عهد الاستقلال، كأولى الأولويات على هذه الواجهة.
لقد وجدت موظفا فرنسيا واكب التشريعات الخاصة بالعمل النقابي في المغرب منذ 1920، وإلى جانبه حوالي سبعة من المستشارين الفرنسيين، وبذلك كانوا يشكلون طاقما عنيدا يستحيل التفاهم معه.
وأول ما فكرت فيه، وضع تشريع وطني عصري في شأن مزاولة نشاط نقابي يليق بدولتنا المستقلة. فبدا لي بأنهم لا يريدون مسايرتي في هذا الاتجاه. فأعددت مسودة قانون، يرسي أسس مزاولة العمل النقابي، مشددا على الضرورة القصوى لحيازة الجنسية المغربية كشرط أساسي، وحددت كيفيات المزاولة والترشيح والانتخاب إلخ.
رفض هؤلاء المساعدون هذا المشروع، باعتبار أن المنظومة النقابية بالمغرب هي منظومة دولية، ومبنية على تشريعات عالمية، وأن التشريع المعمول به حتى ذلك الوقت في المغرب تشريع سليم، ولا ينبغي المساس به.
حضر وفد من الاتحاد العالمي للنقابات الحرة في جلسة ثانية، حيث واجهوا مشروعي لدى تلاوتي له عليهم باستغراب. وشعرت بأنهم متكتلون لإفشال كل ما أنا بصدده، وفي لحظة حاسمة من النقاش المتسم بالتوتر، قاطعت الجميع بقولي: (أطلب منكم بعض الهدوء. إن مشروعي سيأخذ طريقه للنشر في الجريدة الرسمية مهما فعلتم، وكنت أفضل بدل تحويلكم للمطبعة الرسمية، لاقتناء أعداد من هذا القانون بعد نشره أن أناقشكم، في حين أنني لست ملزما بذلك أبدا، إننا دولة حرة مستقلة، ويحق لنا وضع التشريعات التي يستدعيها الوضع الاقتصادي والاجتماعي لبلادنا دون كل ذلك من اعتبارات).
صدر القانون الجديد، والذي أصبح قاعدة منذ ذلك الوقت لمزاولة العمل النقابي في المغرب، وقد حاول هؤلاء الناس مجتمعين عرقلة كل الإجراءات التي باشرتها، ولكن عبثا».
بعض المكونات التي عارضت حكومة البكاي في نسختيها الأولى والثانية، هاجمت سياسة وزير التشغيل، ورأى الاستقلاليون وقتها أن الضرورة تقتضي تأسيس حكومة كامل مكوناتها من حزب الاستقلال، على اعتبار أن الحزب يتوفر على ذراع نقابية، يتزعمها المحجوب بن الصديق. لكن ما وقع لاحقا، أكد أن مهاجمي عبد الله إبراهيم أخطؤوا التقدير، سيما بعد انفلات الأمور وحدوث اختطافات راح ضحيتها النقابيون، بعد نجاح بن الصديق في جعل النقابة قلعة حصينة، تمردت أكثر من مرة على سياسة الأحزاب.
المحجوب بن الصديق.. العلبة السوداء لتفاصيل هندسة الإضرابات
قبل الاستقلال، لم يكن أحد ممن ينشطون في صفوف الوطنيين أو التنظيمات السرية يجهل من يكون المحجوب بن الصديق.
شاب نحيف، متوسط القامة، حليق الوجه، ومظهر لا يثير أي شكوك بشأنه، لكنه في الحقيقة كان يُضمر أكثر مما يُظهر، ومع اقتراب سنة 1955، كان الرجل يقود خلفه تيارا بأكمله في الدار البيضاء، ويعتبره المحيطون به، أحد الأسماء الرئيسية في تنظيم المظاهرات والأحداث التي عرفتها المدينة في ذلك الوقت.
ومع بداية البحث عن التموقعات بعد الاستقلال، كان المحجوب بن الصديق أحد أوائل من انتقلوا إلى الصف الأول لتنظيم النقابة المغربية، خصوصا وأنه كان معروفا بعلاقته الوطيدة مع كل من المهدي بن بركة وأحمد بلافريج.
ورغم أن تقارير سوداء كُتبت عن المحجوب بن الصديق، حيث وصفه البوليس الفرنسي بـ«زعيم العصابة»، وفي تقارير أخرى وصفه بـ«المجرم الخطير»، إلا أن علاقة المحجوب بن الصديق بالقيادة السياسية لحزب الاستقلال واعتباره إحدى ركائز الذراع الحزبية في التأطير العمالي وجمع الحشود، حسمت موقعه المستقبلي في الساحة السياسية للعقود المقبلة، وامتدت لأكثر من نصف قرن من حياته أشرف فيها على أغلب الأنشطة النقابية، التي عرفها المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
من هندسة الإضرابات إلى مفاوضة الحكومات، وصولا إلى الضرب على الطاولات، رفضا للقوانين التي تؤطر قطاع الشغل وحياة الشغيلة.
لكن المحجوب بن الصديق، الذي نجا من محاولات الاغتيال في سياق الصراع حول المواقع، خاض حروبا أخطر من تلك التي خاضها وهو على كرسي زعامة أكبر نقابة عمالية في المغرب.
وتعود أخطر المعارك التي خاضها بن الصديق، أو خاضها الآخرون ضده، إلى بداية الستينيات، عندما كانت معارضة قدماء المقاومة له أخطر من المعارضة الداخلية له في عالم النقابة.
ونعود هنا إلى شهادة نادرة، خصنا بها أحد أقدم المقاومين المغاربة الذين اشتغلوا في صفوف حزب الاستقلال، ويتعلق الأمر بالمقاوم إبراهيم الأقاوي. والذي خص «الأخبار» بأوراق تتضمن شهادة مثيرة، وحصرية، تتحدث عن الصراع بين المحجوب بن الصديق، عندما كان ينظم صفوف نقابته لشن أولى الإضرابات النقابية في تاريخ المغرب، وبين معارضيه من قدماء المقاومة، حيث لم يتردد شيخ العرب، الذي انتهى مطلوبا أمنيا في بداية الستينيات، بتهمة حيازة السلاح وإنشاء عصابة مسلحة، وقُتل على يد الأمن سنة 1964، (لم يتردد) في التخطيط لقتله.
يقول الأقاوي في شهادته لـ«الأخبار»:
«وأذكر أن زيارة شيخ العرب للكراج كانت صباحا، وبعد أن تبادلنا التحية، طلب مني أن أصاحبه إلى مقر الاتحاد المغربي للشغل بشارع الجيش الملكي، وهو المقر الذي كنا نسميه بيننا ببورصة الشغل، لم أسأله عن الغاية من الزيارة إنما فهمت في ما بعد أنه يريد أن يلتقي بعبد الله بوزاليم، وهو صاحب المقهى الموجود تحت مقر الاتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء، وعبد الله بوزاليم من نواحي مراكش، والحق أننا كنا مرافقين بالسيد الحيّاة في هذه المهمة، ولما وصلنا قرب المقر طلب شيخ العرب من الحياة النزول، ليدعو بوزاليم عبد الله للخروج للقائه.
في هذه اللحظة وقفت سيارة (فولكسفاغن) غير بعيد منا. وكانت تلك سيارة المحجوب بن الصديق، ويبدو أنه أحجم عن الخروج من سيارته، عندما لاحظ سيارتنا من نوع (رونو دوفين) واقفة، وكأنه شعر بأن في السيارة المواجهة سلاحا! فأمر أحد مرافقيه بالنزول للتحقق ممن بداخل السيارة.
فنزل مرافقه وكان مدير جريدة ( لافونكارد) واتجه نحونا، بينما بقي المحجوب في سيارته يتابع ما يجري، كان شيخ العرب يجلس في الكرسي الخلفي للسيارة. وعندما وصل سأل الحياة عن سبب وقوفنا وهل ننتظر أحدا بالذات، فأجابه بأننا ننتظر شخصا موجودا في المقهى، وسيخرج حالا، وبينما كانا يتحادثان، كنت صامتا أنظر في المرآة الداخلية، ولاحظت أن شيخ العرب أخرج سلاحه وشرع في تحضيره، وأجزم أن مرافق المحجوب بن الصديق كان سيقتل لو عاد إلينا للمرة الثانية، فقد كان شيخ العرب في حالة اضطراب شديدة، فكرت.. وانطلقت مبتعدا عن المكان بسرعة. فالأجواء كانت في منتهى التوتر».
إضراب آسفي المنسي.. أقل من سنة قبيل الاستقلال
يعود هذا الإضراب إلى صيف سنة 1955، قبل أقل من سنة على استقلال المغرب، وعلى بُعد 3 أشهر على عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.
شهدت مدينة آسفي فصول هذا الإضراب الذي سجله التاريخ، لكنه منسي تماما من الذاكرة.
الإضراب الذي سُجلت تفاصيل تطور أحداثه، وحتى تداعياته، في أرشيف البوليس الفرنسي الذي جُمع بعد الاستقلال، وسجل ما وقع أولا بأول، بل ساعة بساعة، استنادا إلى محاضر موظفي الاستماع لجهاز الهاتف، لإحصاء المشاركين في الإضرابات وعدد الموجات الاحتجاجية التي خرجت في أغلب مدن المغرب على خلفية الأحداث التي أججت إضراب حرفيي الصيد في آسفي.
الإضراب جاء احتجاجا على بعض الأحداث التي عرفتها مكناس، والتي سقط فيها مواطنون مغاربة متظاهرون برصاص البوليس الفرنسي، والتي وصل صداها إلى باقي المدن المغربية وخلفت سخطا كبيرا على السياسة الفرنسية في المغرب، لأن القتلى المغاربة كان عددهم كبيرا مقارنة مع خسائر الأمن الفرنسي في أغلب الأحداث، أو المظاهرات السلمية التي كانت فرنسا تواجهها بالقمع والاعتقالات وتستعمل فيها الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين.
كان الإضراب إذن هو الحل الأنسب للرد ما دام الأمن الفرنسي لا يتورع عن مواجهة أناس غير مسلحين، مستعملا الرصاص الحي مخلفا أعدادا كبيرة من القتلى.
إضراب ممتهني الصيد في آسفي، كان حدثا استأثر باهتمام الإعلام الناطق بالفرنسية في المغرب، رغم أنه قلل من شأنه، إلا أن سوق السمك في المدينة أصيب بشلل تام، وتكبد بعض رجال الأعمال الفرنسيين الذين كانوا يستثمرون في قطاع الصيد خسائر كبيرة. رغم أن الإضراب لم يستمر إلا فترة قصيرة لم تتعد ثلاثة أيام.
كان أغلب الصيادين يتخذون من الصيد التقليدي مهنة معيشية، ورغم ذلك فإن الإضرابات التي قام بها الصيادون كانت مؤثرة، خصوصا وأن نسبة كبيرة من سكان المدينة كانوا يعتمدون على السمك كغذاء أساسي.
وكان الهاجس الأمني بالنسبة إلى الإدارة الفرنسية هو توفير الحاجيات الأساسية داخل التجمعات السكانية، حتى لا تتخذ الأمور مجريات عنيفة قد تؤجج المتظاهرين للقيام بالأسوأ، ووقتها ستكون حياة المواطنين الفرنسيين المقيمين في تلك المدن، من بينها آسفي بطبيعة الحال، مهددة. لذلك كان الإضراب الذي قام به الصيادون مؤثرا.
ما ساهم في إنجاح إضراب آسفي، حسب ما جاء في محاضر الأرشيف، وجود اتصال بين من تزعموا إضراب الصيادين، وبين بعض المعمرين الفرنسيين المعروفين بانتسابهم إلى التنظيمات النقابية الفرنسية في المغرب. وهذه الفروع النقابية الفرنسية في المغرب، بدأت عملها منذ عشرينيات القرن الماضي، لكنها في منتصف الخمسينيات عرفت انتساب مثقفين فرنسيين أقاموا في المغرب، مما زاد من رفع درجة الوعي عند المغاربة بضرورة المشاركة في العمل النقابي وشن الإضرابات وحتى الاحتجاجات.
إضرابات الدار البيضاء، في الفترة نفسها، نالت أيضا نصيبها من التوثيق في أرشيف المحاضر الفرنسية، لكن قوة إضراب آسفي جاءت أساسا ارتباطا بالسياق الوطني الذي نُظم فيه، وعدم انفلات الإضراب أو اختراقه من طرف البوليس الفرنسي، رغم وجود الجواسيس والمخبرين. فقد بقي خبر تنظيم الإضراب سرا، إلى أن انفجر في وجه الشرطة في آسفي، عندما نزل البحارة في مظاهرات جابت المدينة، تلتها بطبيعة الحال موجة اعتقالات طمعا في الوصول إلى مهندسي الإضراب.
عمر بنجلون.. الاسم الذي أفاض كأس الصراع النقابي الأسود
عندما أصدر الدبلوماسي واليساري السابق مولاي المهدي العلوي مذكراته، قبل أربع سنوات، نشر فيها مقتطفا من رسالة يمكن اليوم اعتبارها وثيقة تاريخية بامتياز.
الرسالة كتبها عمر بنجلون، يشتكي فيها إلى المحجوب بن الصديق من مضايقات وتصرفات تُسيء إلى العمل النقابي.
وهذا مقتطف مما جاء في الرسالة:
« الأخ المحجوب، الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل،
للمرة الثانية، يتم اختطافي وتعذيبي في أحد الأقبية. الأولى وقعت يوم 20 دجنبر 1961 على الساعة الواحدة والنصف صباحا. كان ذلك بمناسبة الإضراب العام الذي قررته فيدراليتنا الوطنية للبريد، إضرابا كان ناجحا باهرا للاتحاد المغربي للشغل، كما عنونت
جريدة «الطليعة».
اختطفت من طرف عصابة خاصة تابعة للسلطة الفيودالية. وهذه الأخيرة قررت العملية عندما اقتنعت بأن الإضراب فعلي، وكان لا بد لها من مسؤول، رأس ثعبان تمارس عليه انتقامها الأخرق. وكان لي شرف هذا الاختيار. أقول شرف، لأن قناعتي الراسخة هي أن الطبقة العاملة تشكل الطليعة الطبيعية في الكفاح الفعلي والملموس، الذي يجب أن يخاض ضد الفيودالية والبورجوازية والإمبريالية. وهذه المرة لا أستطيع للأسف أن أتحدث (تماما) عن شرف. فباسم الطبقة العاملة تعرضت في وضح النهار للاستفزاز من طرف مسؤولين في الاتحاد المغربي للشغل، أمام أنظار حراس الاتحاد المغربي للشغل وحياد متواطئ من طرف الشرطة. وتعرضت للضرب واللكم ونقلت إلى القبو. تعرضت في ظرف 12 ساعة لثلاث حصص من التعذيب، تجاوزت وحشية كثيرا مما تعرضت له في السنة الماضية، لأن الأمر في المرة الأولى كان مجرد تهديد».
يحكي بنجلون في هذه الرسالة المطولة، أنه مُنع من دخول الاجتماع الذي كان مبرمجا في الفترة الصباحية. ويقول إنه أوقف سيارته على مقربة من المكان على تمام الساعة الثامنة وعشرين دقيقة صباحا استعدادا للدخول، لكنه فوجئ باستفزاز من طرف أحد رفاقه في نقابة البريد، واتهمه بالتآمر والتشويش، قبل أن يصفع مرافقه بلمليح. وكان رد فعل عمر بنجلون أنه أخذ رفيقه إلى السيارة لحمايته من أي اعتداء آخر، إلى أن تطورت الأمور إلى مشادات أدت إلى اختطافه من أمام المقر ليتعرض للتعذيب، حيث استمر اعتقاله في القبو من الصباح إلى ما بعد الثامنة ليلا، حيث بدأت حصص الضرب واللكم والرفس من طرف نقابيين اتهموه بتسييس العمل النقابي.
عمر بنجلون، الذي تناول هنا كواليس الإقصاء الذي تعرض له في العمل النقابي في ستينيات القرن الماضي، عرف نهاية أسوأ مما تعرض له هنا من تضييق. فقد اغتيل غدرا في سنة 1975، وشكل حدث استشهاده موجة سياسية ركب عليها الكثيرون، وصفيت بسببها تيارات وأثيرت حولها الكثير من النزاعات.
كان الماضي النقابي لعمر بنجلون، وراء حشد المتضايقين من شعبيته الكبيرة وأنشطته النقابية. حتى أن بعض «الرفاق» تنبؤوا له أن يخلف المهدي بن بركة في النشاط الحزبي.
كما أن السياق العام في المغرب وقتها، وظهور تيار الإسلاميين في الساحة، والحرب الكلامية وحرب الأفكار بين اليمين واليسار، حرضت على رموز التيارين معا، وكان عمر ضحية تلك الحرب. لكن بعض العارفين بالكواليس وخبايا الأمور أكدوا أن ماضي عمر النقابي كان مساهما أيضا في استهدافه، فقد كان المتضايقون من أنشطته النقابية، الرابح الأكبر من رحيله.
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار