بقلم: محمد الحدوشي.- جريدة البديل السياسي
في زاوية من زوايا هذا الوطن، وفي حيّ شعبي بسيط بمدينة العروي، انطفأت شمعة بريئة لم تُكمل بعد عامها السابع. رحل الطفل “ي.ب”، ضحية جديدة من ضحايا الإهمال المركّب، ضحية صمتٍ ثقيل يخيّم على واقعنا اليومي، حيث تتقاطع فيه هشاشة التدبير مع بلادة المسؤولية، وتتوارى فيه الحياة أمام وحشية الكلاب الضالة، المتروكة تتكاثر وتسرح في الأحياء بلا رادع ولا وازع.
ثلاثة أسابيع من الألم، من الصراخ الصامت، من الترقب الحارق بين الحياة والموت، كانت كافية لتتحول عضة كلب ضال إلى مأساة وطنية، وجرح عميق في وجدان كل من لا تزال في صدره ذرة من إحساس أو إنسانية. هذا الطفل، لم يكن سوى صورة لأطفالنا جميعًا.
كان يمكن أن يكون ابنك، أو ابن جارك، أو حفيد تلك الجدة التي لا تزال تصارع الذكرى بدموع لا تجفّ. لقد وقع ما لا يجب أن يقع.
والكارثة، ليست في حجم الفاجعة فحسب، بل في أنها كانت ممكنة التوقّع، ممكنة التدارك، ممكنة التجنب.
فمتى كانت الكلاب الشاردة خفيّة عن أنظارنا؟ ومتى غابت عن أزقتنا وأسواقنا وأمام أبواب المدارس ومراكز الحي؟ إننا لا نكتب عن ظاهرة مفاجئة، بل عن واقع يومي نعيشه برعب معتاد، حتى أصبحنا نتكيف مع الخطر كما يتكيف الجسد مع السمّ تدريجيًا.
كيف يُعقل أن يخرج طفل من باب بيت جدته ليينهش رأسه كلب متروك للشارع؟ أين الجماعات؟ أين مكاتب حفظ الصحة؟ أين فرق المراقبة؟ أين الجمعيات التي تنادي بالرفق بالحيوان دون أن تقف لحظة لتقول أين رفقكم بالإنسان؟ أيّ رفقٍ هذا، إذا كان ثمنه روح طفل في عمر الزهور؟ إننا لسنا ضد الرحمة بالحيوان، بل معها في إطارها المتوازن، الرحيم والعادل. لكن حين تتغوّل هذه الرحمة وتُستعمل كشماعة للهروب من المسؤولية، يصبح الأمر انحرافًا خطيرًا عن جوهر الأخلاق، وعن جوهر القانون، وعن جوهر الإنسانية. فلتقف الضمائر قليلًا أمام هذا المصاب.
لا نريد شعارات إنشائية بعد الآن.
نريد موقفًا، قرارًا، سياسة واضحة تُعطي الأولوية للإنسان، تحمي حياته، تحمي أبناءه، تضمن له بيئة آمنة لا يكون فيها الخروج من المنزل مخاطرة يومية.
نعم، نريد جمعيات للرفق بالحيوان، ولكن نريد قبلها دولة للرفق بالمواطن. نريد قوانين، ونريد تطبيقها.
نريد أن نسمع أن المسؤول المُقصّر حوسب. أن الجماعات التي لم تتحرك ساءلتها السلطات. أن ملف الصحة خضع للتدقيق. لا نريد دمعة أم تنسكب في الظل دون مساءلة.
إن فاجعة الطفل “ي.ب” ليست نهاية القصة، بل بدايتها. إنها ناقوس خطر، وصفعة في وجه كل الجهات المتقاعسة، من الجماعات الترابية إلى السلطات المحلية، ومن المصالح الصحية إلى من يُدبّر هذا الملف من خلف المكاتب. أليس من الأولى أن يكون لكل جماعة حضرية قسم خاص لمراقبة الحيوانات الشاردة؟ أليست هناك ميزانيات تُصرف؟ أليست هناك لجان مختصة؟ فما جدوى كل هذه الهياكل إذا كان طفل يموت لأن كلبًا متروكًا فعل ما لم تفعله باقي الوحوش المفترسة ؟ نطالب بالعدالة، لا انتقامًا، بل احترامًا للحياة. نطالب بتدبير مسؤول لملف الكلاب الضالة، لا عبر الترحيل المؤقت، ولا عبر حملات موسمية، بل بخطة علمية متكاملة، تراعي الصحة العامة، وتحترم الحق في الحياة، وتُوازن بين رفق الحيوان ورفق الإنسان.
ليرقد الطفل “ي.ب” بسلام، ولتظل ذكراه جرسًا لا يصمت، يقول لنا كل صباح: أنقذوا أطفالكم، قبل أن تطلبوا الرحمة من كلاب تركتموها تنهش أمنهم، وطفولتهم، وأحلامهم الصغيرة.
رحم الله فقيد الطفولة، وألهم أهله الصبر، وجعل ما أصابه شاهدًا على تقصير بات يُهددنا جميعًا. كفى من التجاهل.. كفى من الصمت.. كفى من التقصير.
تعليقات
0