الأنشطة الملكية

المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني كان في أوج الدبلوماسية العالمية.

جريدة البديل السياسي :

إن كل ذلك الصيت الذي حملته المملكة المغربية عبر الأحقاب والدهور لم يكن فقط وليد ممارستها على الصعيد الداخلي ولكنه – وهذا ملحظ يجب أن يقال – كان ناشئا عن تزكيات عالمية لمبادرات المملكة إزاء قضايا معينة عرفتها المجموعة الدولية:
لنأخذ لنا مثلا موقف المغرب إزاء الوضع في الأندلس على عهد المرابطين عندما هب لنجدة الذين استصرخوا به من وراء البحار… وإزاء الحالة في غرب إفريقيا عند تناهت إليه أصداء محاولات الإجهاز على ما أنشأه الفاتحون هناك من قيم ومبادئ…
ولنأخذ مثلا آخر من المبادرات الرائدة، في بداية العهد الموحدي، عندما جعل المغرب حدا لاحتلال النورمانديين لمهدية تونس وضرب بأسطوله الحصار على كل الذين كان تحدثهم نفوسهم باكتساب موضع قدم على الساحل الإفريقي.
وماذا كان يعني حديث التاريخ عن الوجود المغربي على ساحة القتال في بلاد الشام للتنفيس عن المجاهدين في الحروب الصليبية؟.
وماذا يعني حديث التاريخ عن الاتفاقيات والمعاهدات التي كانت تربط المغرب بسائر الممالك المسيحية على طول حوض البحر المتوسط؟.
وماذا كان يعين قيام المغرب بمساعيه الحميدة – منذ العصور الوسطى من أجل أن يحافظ ملوك المشرق على وشائج القربى التي تجمعهم فلا يتنابذون ولا يتخاذلون؟.
وماذا يعني قيامه بنفس الدور قبل قرون خلت من أجل أن لا يصطدم أيضا ملوك أروبا فيما بينهم، حفاظا على أمن وسلامة البحر المتوسط؟.
بل وماذا يعني أن يقوم المغرب بإصلاح ذات البين بين الأمم على مستوى القارات: بين العثمانيين الذين تنفذوا في آسيا وبين الإمارات والجمهوريات في أوربا ثم بين الولايات الأمريكية من جهة وبين الايالات الإفريقية من جهة أخرى !.
إن مثل تلك المواقف هي التي جعلت من المغرب الدولة التي كان لها صدى في كل مكان، والتي أسهمت في صنع تاريخ هذا العالم الذي نعيشه في حاضرنا…
وتظل القولة السائرة: “هذا الشبل من ذلك العرين” صادقة قوية الدلالة، بل إن هذه القولة هي التي ساعدت علماء الإجتماع وأقطاب السياسة على أن ينشدوا أسباب أحداث اليوم فيما جرى بالأمس، وأن يقرأوا ماجريات الغد على ضوء ما يشاهدونه الساعة.
لقد لذ لي بحكم هويتي كأحد المهتمين بالعلاقات الخارجية للمغرب، وبحكم متابعتي اليومية لما يجد، على المستوى الدولي، من فعل أو قول، لذ لي أن أرصد- كما رصدت بالأمس – صيت بلادي اليوم في الجهات الأخرى… كان علي أن أرحل إلى الأماكن النائية على نحو ما فعلت في الأماكن المجاورة… كان علي أن أقرأ بكل لسان ماذا يقال عن بلادي وأن أقوم كذلك بمقارنات ومفارقات من أجل تقييم المقول والقائل، والمنقول والناقل… نشدت هذا وذاك المغرب العظيم يستهدف للسطو الأجنبي فتعبر انتفاضه، قمة وقاعدة أمام العالم كله، عن أمة جديرة بذلك الماضي المجيد الذي عرفنا عنه بالأمس… قرأنا عن بطل المغرب جلالة الملك محمد الخامس الذي عرف صحبة ولي عهده – كيف يعبئ البلاد قاطبة ضد الاحتلال… وعرف كيف يحبط كل المؤتمرات التي كانت تهدف لعزلنا عن المجموعة الدولية وتحاول أن تصرفنا عن التزاماتنا أمام الأسرة الإسلامية.
تظل ملحمة استعادة المغرب لسيادته واستقلاله أمثولة رائعة لكل المناضلين في كل مكان، وهل عرف التاريخ العالمي أمة كان الملك فيها وأسرته الكريمة (في طليعة الذين يختارون المنفى السحيق على أن تظل أمتهم ترزح تحت نير الاستعباد؟ وهل عرف التاريخ أمة ربطت مصيرها بمصير غير المغرب؟
وعندما استرجع المغرب سيادته، هل كان “أنانيا” يكتفي بمكاسبه ؟ كذلك كان يفكر قوم لا يعرفون أما هو فقد كان مضرب المثل في الإيثار… ومن ينكر دور المغرب في تحرير إفريقيا…؟ !.
وهنا أيضا – وبعد استقلال عدد من الأمم الصديقة والشقيقة- وجدنا المغرب هو يتدخل اليوم كما تدخل بالأمس من أجل بسط السلام وإقرار الشرعية في بعض جهات إفريقيا… وهو يعبئ قواته من أجل إزاحة الظلم والحيف الذي تعرض له إخوته في المشرق من لدن الصهاينة المعتدين..
على هذا الصعيد كما على صعيد آخر: صعيد الأخلاق المثلى التي تظل الرصيد الثمين لكل الأمم، الأخلاق التي تتجلى في الوفاء والصدق وتفهم الغير والتفتح على الناس في رباطة الجأش أيضا ووضوح الرؤية كذلك، في التعالي على سفاسف القول وعدم الاغترار بالمظاهر… في القصد نوأ إلى الهدف المنشود دون ما التواء ولا مراوغة.. ودون ما تردد ولا توقف..
وحتى أختصر الطريق لنفسي وجدتني أمام عنصر كان له الأثر القوي على رفع اسم المغرب عاليا بين الأمم الأخرى، وبدأ ذلك عن طريق الأسلوب المبدع الملهم الذي ما انفك جلالة الملك الحسن الثاني يخاطب به الفكر الغربي طيلة الخمس والعشرين سنة الماضية… سواء عن طريق  الإعلام العالمي أو عن طريق المنظمات الدولية أو منبر الأمم المتحدة…
لقد قرأنا عن عرش الملوك العلويين أنه لم يكن كرسيا من ابنوس مطعم باللؤلؤ والمرجان ولا منبتا بالفضة والذهب، ولكنه كان مطية خيولهم التي كانوا يدبرون منها أمر الملك ومنها يتتبعون ظروف البلاد وتطوراتها أينما كانوا…
ونحن اليوم في عصرنا تجاوز الخيول إلى السيارات والقاطرات والطائرات، فهل اختلف الأمر اليوم عن الأمس؟ إن العاهل حفظه الله يظل على مكتبه ومع ملفاته سواء أكان بفاس أو مراكش بالرباط أو الرياض، بباريز أو نيويورك أو موسكو… وسواء كان على متن البحر أو الجو، فهو مع المغرب ومع المواطنين ومع مسؤولياته الكبرى على شتى الأصعدة.
تتبعوا نشاطه وهو في الحل والترحال فستجدون أنه هو هو … ستجدون أن تلك التنقلات لم تنل من توازن أعماله، ولم تجعل لقضية من القضايا رجحان كفة على حساب القضية الأخرى… فهو يصرح… ويستقبل وينبه ويرشد… على نحو ما عليه إسماعيل العظيم ومحمد الثالث والحسن الأول… وهكذا كان واسطة عقد تسلسلت لئالئة النيرة كابرا عن كابر فلم يكن غريبا ولا دخيلا ولا طارئا ولا عابرا ولكنه كان يشعر بأنه يقوم على أرضية صلبة ووراء خلفية حافلة !.
وما تستوي أحساب قوم تورثت   قديما وأحساب نبتن مع البقل !!
لقد عرفته الساحة الدولية منذ أن تربع على عرش أسلافه فعرفت فيه مثال القائد الفذ الذي يمتلك الحكمة وفصل الخطاب، وتأويل الأحاديث، وحسبك أن تقوم برحلة لأرشيفات المنظمات الدولية وتطلب إليها أن تمدك بالمقولات التي سجلتها عن الملك الحسن فيما يتصل بالعلاقات الدولية، وفيما التقطته من استجواباته أو تصريحاته أو خطاباته هنا وهناك، وفيما سجلته عنه هناك في مختلف القارات في شتى المناسبات…
سنجد أن “المصطلح الذي أثر عنه واشتهر به هو غير المصطلح” الذي يعتاده الآخرون، ومن ثمة قلنا أن “أسلوب” جلالة الملك الحسن “أسلوب” طارئ على المجتمع الدولي… وأحب بهذه المناسبة أن ألفت النظر-كبداية -لظاهرة نيرة اتسم بها نطقه الكريم أمام تلك المحافل.
إن معظم التدخلات التي رددت صداها جنبات تلك المجامع، إن لم أقل كلها، كانت تخلو من ذكر ما يتصل بعالم الروح… ! لكن جلالة الملك المؤمن تعود – وهو من مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتصرف إلا وهو مقتنع بأن هناك قوة خارقة تجهلها أو تتجاهل ذكرها القوى العالمية، إن تلك القوة بالنسبة إليه تظل “الشحنة” التي تقوى من عزيمته وتشحذ من إرادته… وهكذا سجل أرشيف الأمم المتحدة أن المملكة المغربية أول دولة فضلت أن تكون تحيتها الأولى للمنتظم الأممي ليست رسما فنيا ولا قطعة من البرونز أو زربية مبثوثة، ولكنها لوحة تبتدئ باسم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قبل أن تكون ديباجة دستور الأمم المتحدة… تلك كانت هدية المغرب إلى أبهاء الأمم المتحدة، وهي الهدية التي ما تزال اليوم تستوقف الزوار الذين يترددون على نيويورك في كل مطلع شمس…
ومن هنا لم يكن غريبا علينا أن نجد أن أرشيف الأمم المتحدة يسجل أن العاهل المغربي كان أول رئيس دولة يتيمن بكلام الله وحديث رسول الله، فيما يلفظ به من قول، ومن ثمة أصبح على الذين يستمعون إلى جلالة الحسن أن يبحثوا في الموسوعات الإسلامية عن المفردات والمصطلحات التي يستعملها جلالته في حواره مع المنتظم الدولي.
وهكذا فرض على المنتسبين للأمم المتحدة بما فيهم العقلانيون والعلمانيون، أن يضيفوا إلى قواميسهم السياسية موسوعات أخرى تهتم بالدين وتعتمد على مخاطبة الوجدان ! لقد كان –أعزه الله- أحسن وأصدق من عرف بالإسلام في الأمم المتحدة حتى صح الاعتقاد بأنه حفظه الله لو لم يكن وليد هذا القرن لقال الناس: إنه أقرب إلى عهد الرسول عليه الصلوات.. !.
أضف إلى ذلك ما اعتاد أن يستشهد به من عيون الشعر العربي القديم والحديث أو من الأدب العالمي مما يترجم من جهة أخرى عن تمكن رفيع في الثقافة خليق بأن يرفعه إلى مكانة سامية بين الأمم…
في سائر خطاباته المشهورة أصغى إليه العالم، عددا من المرات، وهو يشيد بحمد الله ومشيئة الله وتوفيق الله… وبذلك تمكن الناس من أن يعرفوا منذ البداية مفاتيح شخصيته الفذة النافذة…
كثيرة هي المصطلحات الإسلامية التي أقحمها في أرشيف المنظمات الدولية وبذلك تميزت خطاباته وطبعت تدخلاته… ثقافة من نوع فريد اقتحمت مبنى الأمم المتحدة وبذلك كان صلة وصل بين حضارات…
إن اللغة الخاصة التي اعتادها رجال السياسة من جلالة الملك الحسن جعلت منهم ألسنة ناطقة شاهدة بإيمانه ووعيه، ونضجه وحكمته وتبصره، ولطالما قرأنا عن عدد منهم يتهافتون على التقاط كلماته والاستفادة من ضرب أمثاله…فإليه يرجع الفضل الكبير في تكوين الفكرة المشرقة التي للقادة والرؤساء عن ديارنا… فلقد كان نعم من يقدم هذا المغرب كحلقة ذهبية بتاريخه ومعالمه، ورجاله وعوالمه، ولقد كان نعم من يقدم هذا المغرب بطموحه وتطلعه، وثقته بنفسه وإيمانه بماضيه وحاضره ودوره في بناء صرح الحضارة جنوبا وشرقا وشمالا… وغربا كذلك…
وأن في أبرز ما لفت أنظار المتتبعين لآثاره تضلغ الرجل واستيعابه واستقطابه لكل ما يكتنف هذا العالم من ظروف وصروف، فهو يعالج القضايا علاج العارف الواصل الذي يدرك أين ومتى يقدم الوصفة الناجعة..
إن الرجل – وهو يعيش على أرض حكمها جدود له من قبل، عبر أحقاب وقرون… إن الرجل وهو يعيش على أرض يقدر جيدا موقعها ووقع كلمتها عبر التاريخ كان يفكر على عدد من الواجهات…
ومن هنا كان واضحا عن درجة التمكن من القضايا المطروحة بالنسبة للعالم فيما يتصل بتلك الاعتبارات، فإذا ما أضفنا إلى كل ذلك، ما نشأ من هيئات ومؤسسات ومؤتمرات نتيجة لمصالح ظرفية، عرفنا إذن ثراء القاموس الذي يستعمله جلالة الملك الحسن مع كل تلك الفئات ومع كل تلك الهيئات… مدرسة كاملة يتمكن جلالة الملك الحسن الثاني من فصولها وموادها، ومن ثمة كان إذا تحدث منها أو عنها كان حديثه هو القول الفصل، ولطالما سمعنا عن قصد ناديه من أجل أخذ فتوى أو استخراج رأي.
ومن هنا لم يكن غريبا علينا أن نراه على قمة الدبلوماسية العالمية يعالج ما استعصى من قضايا الإنسانية.
وقد اجتمع له في فترة من الفترات أن كان يمثل قارة بكاملها من القارات أو هيئة بسائرها من الهيئات: فيها العالم الإفريقي والعالم العربي وفيها العالم الإسلامي كذلك.
سنقف إلى جانب جلالة الملك الحسن الثاني وهو يظهر على الساحة الدولية بعد تسلم الأمانة في أعقاب وفاة والده العظيم رحمه الله: نحن معه وهو يخاطب العالم الثالث يوم ثامن شتنبر 1961 في بلغراد… أقام سبعة وعشرين من رؤساء الدول والحكومات من الذين كانوا يمثلون قوة متغايرة عن قوتي كل من الشرق والغرب ممن أصبحوا يعرفون بدول عدم الانحياز…
لقد ظلت مساهمة ملكنا في هذا المؤتمر الذي لم يكن له نظير على صعيد المجتمعات الدولية، تقيم الدليل القاطع على تعلق المغرب بمبادئ العدل وعدم التبعية وفي المساهمة في مشروع السلام، وفي اهتمامه بالبحث عن الحلول الصالحة للمشاكل المطروحة آنئذ… لقد أعطى لعدم الانحياز مدلوله الحقيقي والنهائي… إن عدم الانحياز لا يعني إنكار كل فكرة مثمرة أو إيجابية تنبعث من الكتلتين: الشرقية أو الغربية… إن من الحلول ما يوخذ ومنه ما يسترك، ولا بد من أن يستند الاختيار على الموضوعية الثابتة وعلى ضمير دولي…
ونظرا إلى أن المغرب شغوف بالمثل العليا للسلام والعدل والمساواة التي ترتكز عليها فلسفة ميثاق سان فرانسيسكو، فإن جلالة الملك أكد تعلقه بأهداف ومبادئ الأمم المتحدة التي كانت مهددة إذ ذاك بمخاوف خطيرة. ولتعزيز الجهاز الدولي الضروري للإبقاء على السلام، والذي هو الضمانة الجوهرية لسيادة الدول، فقد وجدنا العاهل المغربي يقوم بتقديم اقتراحات هامة أثبت التاريخ المعاصر أنها كانت ضرورية لمصداقية قرارات المنتظم الدولي وفي صدرها أحداث قوة دولية تساعد على ضمان السلام العالمي.
لقد وضع جلالة الملك الحسن الثاني منذ ذلك العهد نقط نظام حول عدد من القضايا التي كانت الأسرة الدولية لا تعيرها الاهتمام اللائق بها… وهناك سمعناه يرفع صوته عاليا للتنديد بالظلم والحيف الذي يقع على إخواننا الفلسطينيين. هناك نادى على الملأ بقبول الصين في هيأة الأمم المتحدة، وهناك ندد بالتسابق إلى التسلح ووجه نداء ملئه الإخلاص لجعل هذه الأسلحة خارجة عن القانون، وطالب بتخصيص المبالغ الهائلة المصروفة عليها، في مكافحة الجوع والجهل والمرض، ولحل قضايا التنمية…
وهل ينسى أحد مرافعته الرائعة، أعزه الله، من أجل استقلال الجزائر التي كانت ما تزال ترزح آنذاك تحت نير الاستعمار؟ !.
وهل ننسى حديث جلالته عن المشاكل التي تهدد القارة الإفريقية ومناطق آسيا من جراء التقليصات الجائرة التي كانت تقوم بها الدول المستعمرة في غياب أصحاب الحق الشرعي، داعيا إلى احترام الوحدة الترابية. ثم هل ننسى التزامه بمساندة حركات التحرير الوطني وحركة مقاومة الميز العنصري…
لقد كان حضور جلالة الملك الحسن الثاني في مؤتمر بغراد ملفتة لأنظار قادة العالم ليس فقط ممن كانوا يشاركون في هذا اللقاء ولكن ممن كانوا ينتسبون للكتلة الغربية أو الكتلة الشرقية… فقد كانت كلماته محل تعليقات مسهبة تتبعها البيت الأبيض على نحو ما تتبعها الكرملين…
ولقد كان في صدر اهتماماته، وقد ولاه الله أمر البلاد، قضية تشييد وحدة المغرب العربي، “إن جميع عناصر التاريخ يمكن أن تتغير إلا العنصر الجغرافي الذي لا يمكن أن يتغير ومن ثمة يجب احترامه والعمل ضمن إطاره، ومن هنا كان منطلق المتقدمين في عملهم الدائب لضمان وحدة أقطار الشمال الإفريقي وحمايتها من كل تسرب خارجي، ومن هنا كذلك كان اقتناع جلالة الملك الحسن الثاني وكان حماسه الزائد لصالح لم الشمل بين قادة المغرب، ليس لدافع ديماغوجي أو ظرفي ولكن لوازع من ضمير وكني وشعور إنساني… ونظر بعيد يتجاوز الإقليميات الضيقة إلى الفكر المتفتح المستنير… وإن الذين يتتبعون، عن كثب، تضحياته ومبادراته في هذا الصدد ليشهد بالروح الجماعية التي تتملكه كما يشهد بشعوره اللامحدود إزاء واجب الجوار…
وهكذا فمنذ الخطوة الأولى في طنجة (أبريل 1958) لتحقيق هذه الفكرة شاهدنا سلسلة من اللقاءات على مختلف المستويات… مؤتمرات وزراء اقتصاد المغرب العربي بتونس وطنجة وطرابلس والجزائر، ومؤتمرات وزراء التربية. وما تبع هذه المؤتمرات من لجان وهيئات فرعية واجتماعات دولية انصرفت لوضع الأسس الكفيلة بتحقيق تلك الأماني… لقد سجلت سائر المنظمات الإقليمية في شتى جهات العالم حسن نية جلالة الملك الحسن وصدق عزيمته إزاء بناء هذا الصرح الشامخ الذي كان من الواجب أن تتلاشى أمامه كل التطلعات العشوائية… كل التنظيمات الإقليمية… سواء في أوربا أو أمريكا أو آسيا أو حتى في إفريقيا ذاتها كانت تتبع عن كثب خطوات هذا البناء الذي لا يوجد هناك إلا ما يشجع على المضي فيه ماضيا وحاضرا ومستقبلا… وعندما كان جلالته يعمل من أجل تحقيق ذلك الأمل، كلن يعرف بأنه الطريق الأمثل نحو بعث جديد للجامعة الغربية التي تظل النبراس الذي تجتمع حوله الأمة العربية من الخليج إلى المحيط…
إن أحدا في الدنيا لا يجهل أن جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله، هو الذي جرؤ ذات يوم في طنجة عام 1947، والمغرب ما يزال يرزح تحت نير الإستعمار الأجنبي على أن يعلن هوية المغرب العربية أمام العالم كله متحملا في ذلك كل أنواع المضايقات والمعاكسات…
وقد ظل شعار جلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله إزاء الجامعة هو نفس الشعار الذي رفعه والده العظيم، ومن ثمة ارتبط إسم جلالته ارتباطا قويا بقضايا العروبة ليس ذلك أيضا لغرض يناله أو أطماع يحققها ولكن لأنه يؤمن إيمانا قويا بقدسية الرحم الذي يجمع بين أبناء لغة الضاد وبين المتكلمين بلسان القرآن…
وهنا سنجد حضوره في سائر مؤتمرات القمة التي عقدت في المشرق والمغرب وسنجد أنه الوفي الأمين بالتزاماته إزاء الجامعة مترفعا عن كل الخلافات الجانبية، متجاوزا كل الإعتبارات الهامشية…
لقد كانت دول المعسكر الغربي والشرقي تتبع عن كثب ما يمكن أن يؤديه المغرب لقضية العرب الأولى: قضية فلسطين، وكان في تلك الدول من يعتقد أن تعهدات بلادنا تعهدات شكلية تدخل في إطار المجاملات أو المساومات، ولشد ما دهشوا وهم يرون رؤيا عين جلالة الملك وهو يودع في نونبر 1973 التجريدات المغربية للدفاع عن الوطن العربي سواء منها التي ترابط بالجولان (من سوريا) أو التي ترابط في سينا وقناة السويس.. !.
ولم يكن وجود الجيش المغربي هناك مجرد وجود للفسحة وتغيير المناخ ولكنه كان وجودا لبذل الدم والروح من أجل القضية العربية وهكذا عاش التاريخ يذكر أياما له في العصر الوسيط امتزج فيها دم المغاربة بدم إخوانهم في المشرق دفاعا عن الأرض العربي…
لم يكن ولن يكون من الصعب على كل أحد أن يقف بنفسه على دور جلالة الملك الحسن الثاني في التعريف بقضية فلسطين والتشهير بظلم إسرائيل، لقد سجل ذلك بكل لسان وفي كل مكان، وبشتى الصيغ ومختلف الأساليب… وهل تنسى أنه، ظل طيلة زمن طويل، المتحدث بلسان المجموعة العربية على ظهر البسيطة…
ستظل تضحيات الملك الحسن، وستظل مواقف الملك الحسن ومبادرات الملك الحسن طوقا في عنق أبناء العروبة أينما كانوا وبخاصة منهم أبناء فلسطين الذين وجدوا في قلبه الكبير، وفي استعداده الدائم وفي خبرته الواسعة ما جعلهم يؤمنون به فيما يأتي وما يذر… إنهم عرفوه وخبروه وكان في صدر ما عرفوا فيه وخبروا أنه صادق لا يساوم ! وأنه غيور على قضيتهم نزيه في علاجها غير متجر ولا مبتز !!.
وجلالة الملك الذي عرف على الساحة الدولية بأنه مناضل صلب من أجل إحقاق الحق العربي، معروف أيضا لدى العالم فيما يتصل بموقفه إزاء القارة الإفريقية التي ينتسب إليها… ومن هناك تتبع الناس حماسه من أجل مقاومة الإستعمار في كل أجزاء القارة، يبذل في سخاء… ويرحب في قصره بكل المناضلين في سبيل التخلص من حكم الأجنبي، غير هياب في ذلك ولا وجل…
وهل ينسى أحد أن الدار البيضاء هي التي شاهدت أول تجمع مهد لإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية قبل عشرين سنة أو يزيد ؟ ! وفي هذا الصدد فإننا لو حاولنا أن نستوعب جميع ما قيل عن ذلك الموقف لوجدنا أنفسنا أمام رفوف من التقارير والتوصيات والتصريحات والكلمات… تبادلنا الدبلوماسي مع الدول الإفريقية كان دوما في المستوى… لقد كان المغرب حاضرا مع إفريقيا في سرائها وضرائها وعمل دوما على تعزيز وحدتها وتقوية صفها الأمر الذي أدركته واعتنقت به تلك الدول فغدت تتقاطر على المغرب تعقد لها به مؤتمرات ولقاءات حيث كانت تجد في حكمة الملك الحسن وفي أريحيته وعبقريته ما خلدته بطون الملفات مما غدا موضوعات لأطروحات أكاديمية تتحدث عن القارة الإفريقية.
ومن منا لم يقرأ عن نجدة الجندي المغربي للكونغو في بداية الستينات كتعبير منه صادق عن رغبته في رؤية القارة بعيدة عن القلاقل والإضطرابات؟ ومن لم يقرأ عن مساعدة المغرب بل وإيثاره لعدد من الدول الإفريقية، ليس لهدف آخر غير تقديم العون المطلوب إن ما قدمه جلالة الملك الحسن الثاني من عطاء في سبيل بناء الوحدة الإفريقية الإقتصادية وفي سبيل الإبقاء على إفريقيا إفريقية، ومن أجل أن لا تقع إفريقيا في الشرك الذي يريد أن توقعها فيه بعض الجهات المغرضة. إن كل ذلك كان يستحق منا الوقوف عنده مقدرين مكبرين…سيظل الملك الحسن الثاني رجل إفريقيا الذي كرس جهوده من أجل أن يجنب القارة كوارث الخلافات المصطنعة التي لا تجني منها الأفارقة غير البؤس والشقاء… ولقد أعطى المثل لكل دول العالم على أنه المواطن الإفريقي الذي سعى حقا لأمن إفريقيا وسلامها واستقرارها…
ولقد كان جلالة الملك الحسن الثاني على موعد مع التاريخ عندما ادخر له المأثرة الخالدة التي تجلت في دعوة العالم الإسلامي كله للإجتماع على أرض المغرب وتحت رئاسة المغرب من أجل مدارسة قضية تعتبر قمة قضايا المسلمين وفي العصر الحاضر… كانت المناسبة الأولى في التاريخ الدولي التي اجتمع فيها المسلمون على طاولة واحدة (رجب 1389 هـ- شتنبر 1969 م)، حيث تم – في الرباط- إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي في أعقاب المحاولة الصهيونية الآثمة لإحراق المسجد الأقصى…
ينبغي أن نعيد إلى الذاكرة تلك الصورة الرائعة لذلك اللقاء الذي شد الناس إليه من القارات الخمس، وبالتالي شدهم إلى الذي جمع الناس على كلمة واحدة، وحسب بعض الناس أنه مؤتمر دون غد كما يكون الشأن في مؤتمرات أخرى تعقد في جهات الدنيا ! لكنهم لم يلبثوا أن سمعوا عن ذيوله ومتعلقاته في لاهور وفي الطائف والدار البيضاء… بل سمعوا – وهذا مهم – عن إجماع المؤتمر على إنشاء لجنة تعمل على تحرير القدس، وعلى إسناد رئاستها إلى جلالة الملك الحسن الذي كان يعرف جيدا مدى هذه المسؤولية فتحرك عموديا وأفقيا أرضاء لما يمليه عليه ضميره.
وقد وجدناه في حاضرة الفاتيكان يقوم لأول مرة في تاريخ الأديان وفي تاريخ العالم كله، ماضيه وحاضره- وعلى مستوى القمة – بإجراء حوار شجاع متبصر مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، يوم الأربعاء ثاني أبريل 1980 حول القضية التي تشغل بال كل مسلمي العالم الإسلامي قضية بيت المقدس طهره الله من الرجس !.
لقد تتبع العالم أجمع ذلك اللقاء، واستعرض العالم أجمع قضية القدس، وحتى الذين فاتهم، لسبب من الأسباب، أن يهتموا بالحرم الثالث عادوا يبحثون عنه وعن تاريخه، وعاد ذكر عمر بن الخطاب وذكر أيام الموحدين وصلاح الدين… !.
إن ما كتبه الغرب والشرق عن قضية القدس وقضية فلسطين بهذه المناسبة كان يفوق، بثلاثة أضعاف، ما كتب عنه طيلة القرون الماضية !!.
كان يوما مشهودا أن نرى فيه قداسة البابا يخاطب جلالة الملك بهذه العبارات: “إنكم ملك البلد لا ينكر أحد ماضيه الزاخر بالمفاخر، فشعبكم بين شعوب الشمال الإفريقي هو وارث لتقاليد مجيدة وراسخة في القدم وحامل للواء حضارة طبع إشعاعها – وما يزال يطبع – مجالات الثفافة والفن والعرفان…
إنكم في هذه المقام الناطق بلسان البلاد الإسلامية التي عهدت إليكم بالتعريف بمشاعرها نحو مشكلة القدس، لذلك أصغيت إليكم بانتباه بالغ وأنتم تعبرون عن آرائها…
وهكذا نراه أعزه الله ينصب الجور بين الديانات لخلق مجتمع إنساني بعيد عن الظلم والسطو والتعنت.
إن أحاديثه في كل تلك اللقاءات الإسلامية سواء منها المكتوبة أو المرتجلة… كل ذلك كان حصيلة تجارب ممنعة في الرأي الحصيف والنظرة البعيدة… وما أذكر أن تدخلا من تلك التدخلات لم يرق لدرجة أن يصبح وثيقة تساعد الذين عهد إليهم بمدارسة ورقات العمل ! وما أذكر أن خطبة من خطبة لم يتبعها استجواب مثير أو تعليق مستنير حول قضايا الساعة. لقد كان سيفا مصلتا ضد الاستبداد والجبروت والمروق والإلحاد وضد الكبت والقهر وضد التخلف والتأخر والتدليس والتزييف.
أضف إلى كل تلك المجالات إسهامه الجاد والمخلص في بناء معالم الطريق للذين ينشدون مسيرتهم الإسلامية في هذا العالم… تتبعنا ذلك أيضا في التوجيهات المتنوعة التي كان يقدمها أمام مختلف اللقاءات التي كانت – وما تزال – تنعقد على أرض المغرب تحت شعارات مختلفة…
في الإقتصاد في الإجتماع، في الصحة، في القانون، في السياسة، في اللغة والأدب، في كل ذلك، كان شعاره إعزاز كلمة الإسلام.
ولم تكن حاضرة الفاتيكان بداية ونهاية الإتصالات ولكنها اتبعت بتحركات أخرى وهكذا قام أعزه الله بالواجب التي تطوع به في واشنطن وباريز ولندن وموسكو وبكين…
ومن منا ينسى أنه كان أول من وضع نقطة نظام أمام المنتظم الدولي حول المعاهدات الجائرة التي يمكن أن تبرم، تحت الضغط، بين أمة وأمة،.. إن ما سمعه العالم منذ أكتوبر 1983 من جلالته حوا الاتفاقية اللبنانية الإسرائيلية ليعتبر بحق من قبيل المبادرات الرائدة التي صارحت المجتمع الدولي بالأخطاء التي يقع فيها والتي تؤدي حتما إلى الإصطدامات والمواجهات المسلحة…
وعندما جرؤ على الدعوة لنسف تلك المعاهدة لم يكن أحد يتصور آنذاك أنها أصبحت فعلا على شفا جرف هار… !!.
أما عن مكانة جلالة الملك الحسن الثاني في القارة الأوربية فيمكن أن نستخلصها من ندواته الصحفية واستجواباته المثيرة وخطاباته ورسائله منذ أن تربع على عرش أسلافه… لقد وجد فيه عباقرة الكلمة الموزونة، وعباقرة القول، بما فيه الشاخص والظلى، وجدوا فيه، مثال المطلع الصائب الذي لا تخونه الحجة ولا يغيب عنه البرهان..
كان له مع فرنسا ومع إسبانيا.. تاريخ حافل هما أدرى بما فيه سواء عندما كان وليا للعهد إلى جانب والده، أو عندما جلس يفاوضهم في قضايا استكمال السيادة !.
وله مع دول أوربا الغربية بلائحتها الطويلة… ودول أوربا الشرقية كذلك ماض وحاضر مكنها جميعها من التعرف عن كثب على مركز هذا الملك الجليل القدر…ويكفي أن السلك الدبلوماسي في كل تلك الدول بتباري من أجل الوصول إلى المغرب ليمثل بلاده هنا حيث احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان… أمامي تقارير تداولتها عنه تلك المقامات فشهدت له بقوة العارضة واعتدال المزاج… وإن ما يتناقله عنه السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية لما يزيد في مداركهم ويقوي من ممارستهم… إنه بالفعل “مدرسة” جمعت بين معارج الشرق ودارج الغرب… إنه رجل مبادئ… رجل مقاييس ومعايير وليس رجل مخاتلات ومهاترات…إنه القائد الذي نشا في أحضان قادة تسلسلوا عبر قرون عديدة في التعامل الدولي…
لقد كانت لجلالته مع الدول الأوروبية مواقف مشهورة حتى لأصبحت أفكاره وشعاراته معروفة لدى سائر أروبا… وقد سمعنا جميعا عن اهتمامه البالغ بالسوق الأوربية المشتركة مذ أوائل الستينات كما سمعنا عن الصدى العميق الذي تركته زيارة جلالته لمركز السوق سواء بما نثره أمام الأعضاء من آراء واضحة وأفكار صائبة أو بما قدمه لرجال الصحافة الدولية مما كان مثار تعليقات مسهبة…
ولنضف إلى كل هذه التدخلات دبلوماسية الصمت التي يختارها أحيانا لمعالجة الأمور… وهي دبلوماسية لا تقل دلالة عن الأخرى بالرغم من أنها لا تتضمن جملا معربة ولا حروفا مكتوبة.. ! إنه ضمت له قواعده التي لا تختلف عن القواعد النحوية التي نستعملها ونحن نصوغ الكلمات..
ولكن هل إن قربه من أوروبا أنساه قارة آسيا والاهتمام بمشاكلها بل والاقتناع بأنها، على بعدها، تمثل عاملا من عوامل الاستقرار في أوروبا وفي إفريقيا… إن العالم بالنسبة إليه أضحى مدينة إن لم يكن قرية فما يجري في باندوج والصين وما يسمع عن الهند وكاشمير وما يحتدم في الخليج بين العراق وإيران… كل ذلك له رأيه فيه في السابق واللاحق، رأي  لا يتسم بالارتجال والعفوية… ولا تتحكم فيه العاطفة والغرض ولكنه رأي يحترم الحق والعدل ولا يتنكر للتاريخ ولا يجافيه… و كيف لا يهتم الملك الحسن الثاني بتلك القارة الواسعة ولأسلافه الأبعدين والأقربين حديث يروى رددته بلاد الفلبين وجبل سرندبي ومدينة تبريز وقاعدة بغداد…
وماذا عن أصداء جلالة الملك في القارة الأمريكية؟ ينبغي لك أن تقوم برحلة إلى تلك الديار أيضا لتسمع عن الملك الحكيم (the vise king).
لقد كان الأمريكيون يشعرون بالمفاجأة فعلا وجلالة الملك يتحدث إليهم عن مساعدة أسلافه للولايات المتحدة في بناء استقلالها… كما يتحدث إليهم عن السياسة الأطلسية لجده العظيم جلالة محمد الثالث، عندما اعترف بجورج واشنطون رئيسا أول للولايات المتحدة الأمريكية منذ 20 دجنبر 1777 أي قبل المعاهدة الفرنسية الأمريكية المبرمة يوم 6 يبراير 1778 في المجموعة الإفريقية والعربية والإسلامية والقارة الأسيوية… بل والقارة الأوروبية…
كانت المملكة المغربية سباقة إلى الأخذ بيد الولايات المتحدة… ولو أن الرئيس الأمريكي كرانط أو ليسيس سيمبسن (Grant Ulysses Simpson) أدرك بعد المبادرة الجريئة التي قام بها العاهل المغربي محمد الرابع عام 1871 لأصبح المحيط الأطلسي بحيرة سلام تربط المغرب بالعالم الجديد على أساس من التعاون الصادق والمتين…
إن ما كان يجمع بين المغرب والولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى الرعاية والصيانة لأن الوثائق المغربية التي تتصل بحياة تلك الولايات تكون مادة خصبة لتاريخ أمريكا… ومن ثمة كان على كل الذين كتبوا عن أمريكا أن يستشيروا الأرشيف المغربي الثري بأخبار الأمريكان وتطور حياتهم إلى أن ركبوا متن الكواكب !!.
علينا أن نقف قليلا مع جواب جلالة الملك الحسن الثاني على خطاب الرئيس الكندي في أواخر مارس 1963 فهو إلى جانب أنه وثيقة تاريخية رائعة بالنسبة لماضي أمريكا والمغرب، إلى جانب ذلك فإنه أي الجواب وضع الشعب الأمريكي في الصورة الحقيقية التي ينبغي له أن يتوفر عليها فيما يمس علاقته بالمملكة المغربية: فمنذ أزيد من عشرين سنة سمعت أمريكا عن المبدأ المغربي الذي التزم به جلالة المغفور له الملك محمد الخامس فيما يتعلق بعدم التبعية، وهو المبدأ الذي كان ينادي به الرئيس جورج واشنطون والرئيس طوماس جيفرسون… ومنذ أزيد من عشرين سنة عبر جلالة الملك عن تعلق المغرب بسيادته الوطنية ووحدته الترابية كشعار حي دائم يتمسك به الشعب المغربي إلى آخر رمق من حياته !.
وقد عرف الأمريكان أننا لسنا أيتام تاريخ، وأننا مستعدون للمساهمة في بناء المستقبل على أساس من احترام لمعطيات ذلك التاريخ… وتلك أيضا كانت أصداء المغرب في أمريكا الشمالية: كانادا وفي أمريكا الجنوبية بما تحتضنه من جمهوريات ربطنا بها أيضا تاريخ قديم تنطق به رفوف المستندات كما تنطق به مختلف التقاليد والعادات التي انتقلت إلى تلك الديار عبر إسبانيا والبرتغال !!.
في كل تلك الأرجاء – على بعدها – ذكر عطر لجلالة الملك الحسن الثاني يتجلى على لسان الرؤساء الذين يتعاقبون على الحكم، هناك، ذكر عطر يتجلى في الثقة الكبرى والتقدير الجم الذي يكنه أولئك الذين عرفوا جلالته عن كثب وما تنفك مجالسنا تردد ما يتناهى إليها من أجهزة الإعلام الدولية مما يجري على ألسنة الرؤساء والقادة.
أما عن أبهاء الأمم المتحدة بما فيها المنظمات الثقافية فقد عرفته وهو ما يزال في عنفوان الشباب أيام كان وليا للعهد إلى جانب والده… ومنذ ذلك الوقت عرفت فيه العنصر النافع ينتظره المنتظم الدولي…إن الرجل بما مر به من تجربة عملية في النضال الوطني، وبما تجشمه من محن في سبيل تحرير بلاده كان أصدق من يدافع عن تحرير الشعوب التي ما تزال تعيش تحت الهيمنة الأجنبية… وكان أصدق من يقف إلى جانب الذين شوه الإستعمار من معالمهم الجغرافية أو مسخ ملامحهم، وكان أصدق من يدعو لنزع السلاح… والثورة على الميز العنصري في العالم.
* * *
ولا بد أن نستعرض مساعيه الدبلوماسية ونضاله السياسي من أجل استكمال وحدتنا الترابية:
سوف لا أتحدث هنا عن الطريقة الحكيمة التي اتبعها سواء عندما استرجع – من إسبانيا- ايفني أو طرفاية.. ولا عن المخطط الذي أعلنه من الآن لعودة سبتة ومليلة أيضا.. !.
ولكني أقف قليلا مع الحدث الذي هز العالم كله وشد الصحفيين والمعلقين إليه ردحا من الزمان… إنه حديث استرجاع الصحراء التي كان الإستعمار الإسباني سطا عليها أواخر القرن الماضي… لقد طلب المغرب من الجمعية العامة للأمم المتحدة غداة الاستقلال استشارة محكمة العدل الدولية حول ماذا كانت الصحراء أرضا خلاء أو مرتبطة بالمغرب…
ولم تلبث محكمة لاهاي أ ن أصدرت رأيها الاستشاري الذي يؤكد وجود روابط البيعة بين سكان الصحراء وملوك المغرب… الأمر الذي أعقبه الإعلان سنة 1975 عن “المسيرة الخضراء” من أجل استرجاع الصحراء المغربية…
لقد قدر لي أن أكون في هذه الأثناء خارج البلاد وكنت أعيش مع ما تقوله الإذاعات الأجنبية كل يوم وما تعرضه التلفزة الأوربية كل مساء من مشاهد.
لقد كانت أفهام الناس تضيق فعلا أمام حجم الحدث ! فكان بعضهم يحكم مسبقا عليه ! كان بعضهم يسخر منه، وكان البعض الآخر يتساءل عن مدى جذية تسليح أصحاب “المسيرة” بالمصحف الكريم ! خطة غريبة على العالم الآخر… ولكنهم لم يلبثوا أن سمعوا عن نجاح مسلسل المسيرة وعن جلوس الأطراف المعنية إلى التفاوض ! وهكذا فمن المطالبة المباشرة بإعادة ما اغتصبته إسبانيا إلى رفع القضية أمام الأمم المتحدة… إلى صدور رأي محكمة لاهاي 16 أكتوبر 1975 إلى التحرك الإجماعي إلى الجلوس على مائدة المفاوضات مع إسبانيا والوصول إلى اتفاقية مدريد في نونبر 1975… إلى زيارة جلالته التاريخية للداخلة يوم سادس مارس 1980 !… إلى استجابة جلالته إلى توصيات قمة نيروبي 1981 بتنظيم استفتاء في الصحراء… حفاظا على مستقبل منظمة الوحدة الإفريقية…
لقد اقتحمت كلمة “المسيرة الخضراء” كل موسوعات الدنيا، زغدت في عداد المصطلحات السياسية التي لا غنى عن ذكرها من لدن المهتمين بتصفية قضايا الإستعمار بالوسائل الدبلوماسية…
لقد كانت المسيرة، بما احتف بها من قبل أو بعد، قمة شامخة متعالية في باب التعامل الدولي، ومن ثمة فإنها حركت من غيرة أقزام الحكم والسياسة فانقلبوا يحاولون صرف الأنظار عنها عندما كانت هممهم تقصر دون الوصول إلى إدراك كنهها وتخطيطها وجني ثمراتها…
لقد لذ لي أن أقوم بمقارنات ومفارقات بين صراع جلالة الحسن الأول وصراع الحسن الثاني من أجل طرد الأجنبي عن الصحراء المغربية… عشت مع أكوان من الوثائق سواء عندما كنت أستمع في لاهاي لما يقال أو عندما كنت بين رفوف الأرشيفات الأوروبية والأمريكية أتتبع الاحتجاجات المغربية الصارخة ضد التسرب الإسباني والفرنسي في الصحراء المغربية أثناء القرن الماضي… عندما كان جلالة الملك الحسن الأول يقف بالأمس أمام واجهة واحدة أو واجهتين على الأكثر، وعندما أرى جلالة الملك الحسن الثاني يقف اليوم أمام عدد من الواجهات، ليس فيها أولئك الذين يجاوروننا فحسب، ولكن فيها من ينتسب حتى لقارة غير قارتنا ! وليس فيها الذين كانوا يعادوننا في الدين فحسب ولكن فيها الذين ينتسبون لديننا وقبيلنا… وليس في تلك الواجهات الذين كنا معهم على حالة أشبه ما تكون بحالة الحرب، ولكن فيها الذين كنا نثؤهم بالمساعدة والمساندة حتى يلتحقوا بركب الأمم ذات السيادة.. !!.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة   على المرء من وقع الحسام المهند !
ومع كل ذلك كان لجلالة الملك الحسن الثاني سلاحه الخاص به إزاء كل تلك القوى، ومع ذلك فقد مكنه الله من أن يسكت كل الألسنة ويحبط كل المناورات ويقف في وجه كل ضروب العدوان !.
إن القضية بالنسبة إليه ليست مبدأ قوميا فقط ولكنها مبدأ نابع من إيمانه بالله وشعوره بعبء الرسالة التاريخية التي حملها المغرب منذ عهد الأدارسة، عندما التزم بأن يكون الرابط بين الإسلام وبين شعوب إفريقيا الغربية، وهكذا فإن استكمال الوحدة الترابية لا يعني في نظر جلالة الملك مجرد تصحيح لأوضاع جائرة، ولكن يعني قطع الطريق عى موجات المادية والإلحاد وبالتالي خدمة قضية الإسلام والسلام في السودان الغربي على نحو ما قام أسلافه من ذي قبل…
* * *
وما يزال جميعنا يستعرض ذلك المشهد الحافل الذي جمع مائة وخمسين دولة في خريف العام الماضي (27 أكتوبر 1983) كانوا على موعد ليستمعوا إلى جلالة الملك الحسن الثاني لا بصفته فقط ملك للمغرب يتحدث عن ملف بلادنا، ولكن كذلك – وهذا مهم – يتحدث عن ملف الشرق الأوسط وباسم جميع العرب في الدنيا وباسم اللجنة السباعية التي أقرها قمة فاس عام 1982.
قليل جدا عدد الرجال والقادة الذين يمكنهم في هذا العالم أن يحصلوا على الثقة الجماعية لبلادهم وبالحرى عن منطقتهم، وأصعب من هذا وأمنع أن يتحدث المرء عن عالم كله بما يحتويه من ملل ونحل، عالم يمتد من الخليج إلى المحيط، هو العالم العربي… وإلى عهد قريب شاهد العالم كله جلالة الملك الحسن يضيف إلى كل تلك المأثرة مأثرة أخرى، تلك رئاسة للقمة الإسلامية للمرة الثانية وهكذا نعته العالم من جديد بأنه قطب العالم الإسلامي وقطب العالم العربي، وهكذا فكما رأيناه بالأمس يتحدث باسم العروبة يعود ليتكلم باسم مليار مسلم من أقصى آسيا إلى تخوم إفريقيا على اختلاف ألسنتهم وإلوائهم ومذاهبهم… وكلا العالمين العربي والإسلامي يوجد اليوم على رأس اهتمامات كل الدول الغربية والشرقية… ومن ثمة رأينا أن جلالته، حفظه الله، في أوج الدبلوماسية العالمية… ومن ثمة أيضا ندرك جيدا وزن الرجل وقيمته على المستوى الدولي، وندرك من جهة أخرى مدى ما يمكن أن يثيره هذا المركز المرموق من ردود فعل لدى الذين يناوئون قضايا العروبة والإسلام، ويعادون قضايا العدالة والحرية… تلك الردود التي لا تجد لها من مفعول غير تصميم جلالته على تجاوزها وتخطيها إلى الأمام بشجاعته النادرة ومعنويته العالية التي نشأت معه يافعا وصحبته شابا وهي تلازمه اليوم وتمتزج معه وتتخلل أنفاسه على نحو ما يصحبه الإيمان بالله والثقة في الله والاعتماد على الله.
من توجيهات جلالة الملك الحسن الثاني نصره الله
** إن الطريق إلى مركز الصدارة بين الأمم مفتوح في وجه الأمة الإسلامية لا يحول بينها وبينه حائل، لكن يلزم لضمان ذلك أن لا تقتصر عنايتها على الجانب المادي وحده، وعليها أن توجه حظا كافيا من اهتمامها إلى الحفاظ على تلاحم الأسرة المسلمة**

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار