التشكيل والدلالة في قصيدة النثر: نص “بأي المجازات” للشاعرة الفلسطينية رحمة عناب نموذجا د. خالد بوزيان موساوي/ ناقد مغربي
د. خالد بوزيان موساوي/ ناقد مغربي- جريدة البديل السياسي:
النص: “بأي المجازات” بأي المجازات اجاري عبارة الحضور في ملحمة نصّ شاخص الإخصاب حين تتورط الحروف في احتساء كبرياء فاتن اللهفة لا يخشى لفتات الغياب يتأمل رسمك في مقتبل شوق أهوَج مترف بحنين لا تضنيه مآرب الانتظار ينقش في وجهك غيمة شغف تقمع اليباس في ذاكرة الخريف أتأمل يقين الرؤى بعدسة فااارهة الحدْس فهذا نذير يسعى من أقصى الحب لا يتّقي عهر المسافات ولا احتراق العروق في احتضان الغياب تأتيني أنفاسه قوارباً تبتغي نبضات سابحة يتعاظم في واحاتها حشود توق متأهبة النداء تهاجس عذرية الارتواء أتّسع في ذروة افقك و ابتهج ارتشف الفرح من رئة صوتك المغنّى واتدثر بهدب الأناشيد اتناغى على اجيج نصّك فيقطر اليراع جدولا يتوضأ على حدودك متطهراً ولا يتعثر ولك انت اعرّش يقيني جنّةً داااااااااااائماً على مستهلّ الفؤاد و ترافقني شهيّة الاخضرار. بقلم : رحمة عناب – فلسطين المحتلة يتمفصل النص بإيقاعاته الرئيسة الأولى حول مقولتين: الحضور والغياب.
قراءة سطرية تقليدية قد تكتفي بأسئلة سطحية ساذجة مثل: حضور من؟ أو ماذا؟.. غياب من؟ أو ماذا؟.. وكأن الغاية من قراءة النص الأدبي هي التلصص على الحياة الخاصة للمبدع (ة)… بينما الأمر يتجاوز بكثير غائية الشاعر(ة) وأفق انتظار القارئ المولع بالقصص العاطفية ليندرج ضمن ظاهرة شعرية قديمة/ جديدة يسميها تودوروف جدلية الحضور in presentia والغياب in absentia. ففي نظر النقاد “إذا أردنا أن نُنَزّل المصطلحين مدار الشعر فإننا نلاحظ أن الحضور يمثّل التشكيل والغياب يمثل الدّلالة. لذا اعتمدنا، منهجيا، مقاربة هذا النص الشعري انطلاقا من إيقاعته الثلاثة (ثلاث فقرات يفرق ما بينها فراغ من بياض) قد تقترب في تركيبتها السردية من “هرم فريتاغ”؛ وضعية الانطلاق ب “السؤال”، تجاه وضعية الذروة ب “التأمل”، وصولا إلى وضعية الانفراج/ الانشراح. 1 ـ وضعية السؤال: هو السؤال عن سيناريوهات ممكنة للتشكيل؛ كأننا أمام حرقة سؤال فعل كتابة فوق أرجوحة ثنائية المعلوم (الغياب) والموهوم (الحضور).
سؤال كتابة يجعل من التشكيل (لا الوصف الفوتوغرافي) مجموعة طقوس لاستحضار صُوّرا ذهنية ووجدانية للغائب بقوة سلطة اللغة والبلاغة والخيال والكبرياء؛ لا غياب مع وجود النص الذي يتشكل انطلاقا من محفزين؛ الأول دعامته خطاب شعري ملحمي (“عبارة الحضور في ملحمة نص…” السطر 3 و 4) بكل ما لمرجعية هذا الجنس الأدبي الملحمي الدرامي من ميول للحماسية والفخر بالبطولات داخل ميدان معركة يستوجب النزال، والكرّ، والفرّ، والانتصار، والانهزام. هو “نص شاخص الإخصاب” (سطر 4)؛ خصوبة تتجسد تشكيلا عبر تقنية توالد صُوّر شعرية موغلة في انزياحات المجاز بعيدا عن الكليشيهات المُستهلَكة المألوفة تتسلسل كما حلقات عقد فريد؛ كل حلقة على شكل صورة بلاغية تعتمد من البديع محسنات الطباق (حضور/ غياب)، ومن البيان التشخيص/ التجسيد البلاغي (“النص شاخص الإخصاب”/ “تتورط الحروف” / “كبرياء لا يخشى لفتات الغياب”/ “ينقش في وجهك”/ “غيمة شغف تقمع اليباس”…)، ومن المعاني حقلا معجميا دلاليا داخل نفس الإطار المرجعي لثنائية احضور / الغياب (“اللهفة”/ “شوق”/ “حنين”/ “شغف”/ “يباس”/ “خريف”…).
أما المحفز الثاني فدعامته سيكولوجية وجدانية تشكل طاقة داخلية تنفي فكرة الغياب باسم الكبرياء (“حيث تتورط الحروف في احتساء كبرياء فاتن اللهفة لا يخشى لفتات الغياب” السطر 4 و 5 و 6 و 7 و 8 )؛ كبرياء “لا يخشى الغياب”/ “لا تضنيه مآرب الانتظار”/ “ينقش غيمة تقمع اليباس”… وكأننا أمام تشكيل يجسد عبر عملية تنافي أقطاب متناقضاته مربعا سيميائيا كما نَظَّر له غريماس (علاقة تقابلية (تضاد) بين الحضور والغياب. العلاقات الأفقية (حضور، لا غياب) (غياب، لا حضور) تمثل علاقات تماثلية. العلاقات في الزوايا العليا تمثل حضوراً أي وجود، فالغياب والحضور لهما وجود ظاهر.
العلاقات في الزوايا السفلى تمثل عدما؛ أيّ أنّ (لا غياب، لا حضور) ليس له وجود في الخارج، إنما عدم ذهني. العلاقة بين (حضور، لا غياب) علاقة استلزامية، فيلزم من وجود الحضور ألّا يكون غيايا، وكذلك الحال في (غياب، لا حضور).
لكن الإضافة المبتكرة في هذا النص البديع لرحمة عناب كونه حوّل الغياب إلى حضور ذهني عبر الاستحضار بالحرف والخيال الشيء الذي يقربنا من عوالم شبيهة بطقوس المتصوفة إن لم أقل قاب قوس أو أدنى من تعويذة السحر لاستحضار الذوات الغائبة، وفي سياقنا بقوة اللغة الشعرية التي تبرع في ترويضها الشاعرة رحمة عناب. 2 ـ وضعية التأمل: في الفقرة الثانية من النص يتغير إيقاع القصيدة لينتقل الخطاب منهجيا ونوعيا من السؤال (“بأي المجازات”؟ الفقرة الأولى) إلى خطاب التأمل (“أتأمل يقين الرؤى” الفقرة الثانية)، فتنتقل درجة التلفظ (niveau de l’énonciation ) بذلك، باستعمال ضمير المتكلم “الأنا”/ الذات الشاعرة، إلى التبئير الداخلي (focalistion interne) أي رؤية الشاعرة، وليس النص مًجَسّدا عبرها كما في الفقرة الأولى؛ لكن وكأن الأمر يستوجب جناسا وظيفيا تتحول “الرؤية” (وهي حسية/ حركية تخص حاسة البصر بالعين المجردة إلى “رؤيا” (“أتأمل يقين الرؤى” السطر 15)؛ أي ما يُرى في المنام؛ أي بالحواس الباطنة كالخيال والحلم والفراسة والحدس والتنبؤ؛ وهو موضوع التأمل في هذه الفقرة من النص؛ مدى يقين الرؤى.
وفعلا تطلق الشاعرة العنان لنبوءات الوجدان ليتحقق الحضور هذه المرة عبر “الحدس” (“بعدسة فااارهة الحدْس” السطر 16)؛ يرسم في مخيال الذات الشاعرة صورة الحاضر وَهْماً (الغائب فعلا) بقوة سلطان العشق والشغف، قادر على تخطي مسافات البعد ويتشكّل في صورة “نذير حب” مستغرق في الاقتراب دافعه “الارتواء” عشقا كما ” حشود توق متأهبة النداء تهاجس عذرية الارتواء” (سطر 24 و 25)
. 3 ـ وضعية الانفراج/ الانشراح: وكأن النبوءة بفعل الاستحضار بالكتابة أولا (الفقرة الأولى)، وبفراسة الحدس ثانيا (الفقرة 2) قد تحققت في مخيال الشاعرة يقينا، تدعونا الشاعرة رحمة عناب منذ مستهل الفقرة الثالثة من النص إلى رحلة سفر بين ثنايا الحرف لمشاركتها طقوسها الاحتفالية في رحاب البهجة (“أبتهج”)، والفرح (“أرتشف الفرح”)، والغناء (“صوتك المُغَنّى”)، والأناشيد (“هدب الأناشيد”)…
تغرينا باختيار أربعة أفعال في المضارع (وكأن المضارع يدل على حقيقة زمن حاضر/ واقعي بامتياز) تحاكي بضمير المتكلم “الأنا” أي الذات الشاعرة، حالة الانفراج والانشراح عبر تشكيل لوحات فنية (صوّر شعرية) متفردة بلاغيا تتناغم وذروة الحدث (“أتسع في ذروة أفقك” + “أرتشف الفرح من رئة صوتك” + ” اتدثر بهدب الأناشيد” + أتناغى على أجيج نصك”). هي أفعال حركة ملموسة تحيل على انتشاء حواس ظاهرة بعوالم مسموعة (“صوتك”، و”أناشيد”, أجيج”)؛ لكن سرعان ما يتغير الإيقاع في النص لغة وبلاغة ودلالات بمجرد انتقالنا للجملة الموالية (“فيقطر اليراع” سطر 30) إذْ يتفاجأ القارئ/ المُتَلقّي أن لا حضور تمّ ولا لقاء؛ أنه فقط سافر مع الشاعرة في رحاب القصيدة إلى عوالم أثثت فراغا بالتشكيل الفني عبر طقوس شبيهة بقداس تُقام فيه صلاة استحضار للغائب هي ذاتها تتحول إلى إلهام للكتابة كما يؤكد لغويا ودلالة استعمال “فاء السببية” مقرونة بفعل “يقطر” في جملة “فيقطر اليراع”…
وكأن النص انتهى من حيث بدأ (“شهية الاخضرار” في السطر الأخير من النص تقابل “شاخص الاخصاب في السطر 3 من النص)، وكأن تيمة الغياب في جوهرها بالنسبة للشاعرة مجرد هاجس/ دافع/ حفز لكتابة الشعر حيث الحضور يمثّل التشكيل والغياب يمثل الدلالة.
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار