جريدة البديل السياسي – نورالدين عمار.
في وقتٍ يتباهى فيه المغرب بجودة زيت الزيتون وسمعته العالمية، تكشف جولة قصيرة في معاصر الزيتون بإقليم سيدي بنور عن واقعٍ صادم لا يليق بهذا “الذهب الأخضر” الذي يفترض أن يكون عنوانًا للنقاء والجودة.
بين الحقول والمعاصر، وبين أكياس الزيتون المتكدسة في العراء، تروي التفاصيل قصة فوضى وإهمال، ضحيتها الأولى الفلاح والمستهلك معًا. على طول الطرق القروية المؤدية إلى المعاصر، تتناثر أكياس الزيتون على الأرض مباشرة، بعضها مغطى بالتراب والغبار، وأخرى تئن تحت أشعة الشمس نهارًا وبرد الليل قارسًا مساءً.
يصل الزيتون إلى المعصرة ولا يجد مكانًا داخلها، فينتظر دوره في العصر لأيام طويلة، أحيانًا تتجاوز الأسبوع واكثر، وسط ظروف تخزين بعيدة كل البعد عن الشروط الصحية. تخمر الثمار، وترتفع درجة حرارتها، وتبدأ بالتعفن. وفي لحظة دخولها آلة العصر، تكون قد فقدت كل خصائصها الطبيعية. النتيجة: زيت مرتفع الحموضة، ضعيف الجودة، بل أحيانًا غير صالح للاستهلاك.
في بعض المعاصر القروية، تتكرر نفس المآسي كل موسم. آلات متآكلة، أرضيات موحلة، مياه مجهولة المصدر تُستعمل في الغسل، وبقايا من الزيتون الفاسد متراكمة منذ المواسم السابقة. يعمل العمال وسط غياب شبه تام لوسائل النظافة والوقاية. وفي غياب الرقابة، يخرج الزيت من هذه المعاصر مباشرة إلى السوق المحلية، دون أي تحليل أو شهادة تثبت سلامته.
أحد الفلاحين من جماعة أولاد عمران يقول: “الناس تجيب الزيتون وتستنى دورها أسبوع وأكثر، الشمس كتحرق والزيتون كيتخمر، ولكن ما عندناش بديل… ما كاينش معاصر كافية ولا تنظيم”. الفلاح البسيط هو أول من يدفع ثمن هذه الفوضى.
بعد موسم كامل من العناية بالأشجار، يجد نفسه أمام واقع لا يُرحم: معاصر محدودة، تجهيزات متواضعة، وغياب أي مواكبة تقنية من الجهات المعنية. ومع ضعف التنظيم والتأطير، يُضطر لقبول الشروط كيفما كانت، ليحصل في النهاية على زيت أقل جودة مما كان يأمل، فيخسر القيمة السوقية لمنتوجه.
وفقًا للقانون 28-07 المتعلق بالسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، يُناط بـ المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (ONSSA) مهمة المراقبة الصارمة للمعاصر، من حيث: النظافة العامة؛ جودة المياه المستعملة؛ صيانة المعدات والآلات؛ التتبع والتصريح بالنشاط الموسمي
لكن الواقع في سيدي بنور يُظهر أن العديد من المعاصر تعمل دون مراقبة منتظمة أو ترخيص صحي فعلي، خصوصًا في القرى والمناطق النائية. فأين هي لجان التفتيش الموسمية؟ وأين هي تقارير المراقبة الميدانية؟ هل يكفي أن يُوضع شعار “ONSSA” في واجهة معصرة دون حضور فعلي للمراقبة والتتبع؟ غياب هذا الدور الرقابي يجعل الباب مفتوحًا أمام ممارسات عشوائية تضر بالمستهلك وبسمعة المنتوج الوطني.
السلطات المحلية، باعتبارها الجهة التي تمنح تراخيص مؤقتة للمعاصر الموسمية، تتحمل أيضًا جزءًا من المسؤولية. فمن غير المقبول أن تُرخص معاصر تفتقر لأدنى شروط السلامة والنظافة دون زيارات ميدانية دورية. الإشراف الإداري لا يجب أن يكون مجرد توقيع على الورق، بل متابعة ميدانية تضمن أن لا يتحول النشاط الفلاحي إلى خطر على الصحة العامة
دور المديرية الإقليمية للفلاحة لا يقل أهمية، فهي الجهة المفترض أن تؤطر الفلاحين وتواكبهم بتقنيات ما قبل العصر، خاصة فيما يتعلق بالتخزين والتجميع. لكن ضعف الحملات التحسيسية وقلة الزيارات الميدانية جعل الفلاحين يجهلون حتى أبسط قواعد الحفاظ على جودة الزيتون قبل العصر، مثل التهوية أو منع تكديس الأكياس.
وهو ما يطرح سؤالًا كبيرًا: أين هي برامج التأطير القروي في موسم هو الأهم في السنة الفلاحية؟ في نهاية هذه السلسلة الطويلة من الإهمال، يقف المستهلك المغربي في مواجهة خطر حقيقي. فما يُعرض في الأسواق تحت اسم “زيت بلدي” لا يخضع في كثير من الأحيان لأي مراقبة صحية أو تحليل مخبري. وبذلك، تنتقل نتائج الإهمال من أرض الفلاح إلى موائد الأسر، في غياب تام لآليات تتبع مصدر المنتوج وضمان سلامته.
القانون المغربي واضح في هذا الباب. فالمادة 4 من القانون 28-07 تنص على أن كل مؤسسة غذائية يجب أن تستوفي شروط النظافة والسلامة الصحية قبل وأثناء وبعد الإنتاج.
والمادة 10 تُلزم المصالح البيطرية التابعة لـONSSA بإجراء مراقبة دورية لجميع المؤسسات المنتجة للأغذية. لكن تطبيق هذه النصوص يبقى جزئيًا أو شبه غائب في الميدان، وهو ما يُفرغ النصوص القانونية من مضمونها العملي. لهذا يجب التدخل الفوري من ONSSA لتنظيم حملات مراقبة ميدانية صارمة على جميع المعاصر النشطة بالإقليم.
وضع نظام دوري للعصر بالتنسيق مع الفلاحين لتفادي تكدس الزيتون وتخمره. إطلاق برامج تحسيسية لتوعية الفلاحين بطرق التخزين السليمة. تشديد شروط الترخيص المحلي ومنع أي معصرة لا تتوفر على اعتماد صحي. تحفيز الاستثمار في وحدات عصرية جماعية مجهزة بتقنيات تحافظ على الجودة.
قصة زيت الزيتون في سيدي بنور ليست فقط عن منتوج زراعي، بل عن ثقافة سلامة غائبة ومنظومة رقابية مثقوبة. فما جدوى القوانين والمكاتب إن لم تحمِ المواطن من خطر قد يصل إلى طعامه اليومي؟ حان الوقت ليتحرك الجميع: الفلاح، والإدارة، وONSSA، والسلطات المحلية، لإنقاذ هذا القطاع من فوضاه. فـزيت الزيتون ليس مجرد سلعة، بل رمز لجودة الأرض المغربية وكرامة الفلاح، وحمايته مسؤولية جماعية لا تقبل التأجيل.



تعليقات
0