جريدة البديل السياسي |البديل الثقافي

الجامعة المغربية بين الشهادات المتراكمة وسوق العمل المبعثر: دراسة ومعاناة الشباب بين جهة الدراسة وجهة التشغيل

imresizer-1696453276055-600×445

جريدة البديل السياسي-اعداد بدر شاشا 

منذ سنوات طويلة يعيش التعليم العالي في المغرب حالة من الجدل والنقاش المستمرين، فقد تحوّلت الجامعة المغربية من فضاء لإنتاج النخب وإعداد الأطر إلى ساحة مثقلة بالإشكالات والتناقضات. ما كان في الماضي حلماً اجتماعياً يفتح أبواب العمل والاستقرار أصبح اليوم طريقاً ضبابياً لا يفضي في الغالب إلى ما ينتظره آلاف الطلبة. السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: إلى أين تتجه الجامعة المغربية؟

 

المشهد العام يكشف عن توسع كبير في المؤسسات الجامعية، من جامعات كبرى إلى كليات متعددة التخصصات ومدارس عليا موزعة على مختلف جهات البلاد، لكن هذا الانتشار الكمي لم يصاحبه تطور نوعي في المناهج ولا في جودة التكوين. منذ اعتماد نظام الإجازة والماستر والدكتوراه على غرار النموذج الفرنسي، كان الهدف هو توحيد المسارات وخلق انفتاح على سوق الشغل، غير أن الواقع أخذ منحى مختلفاً. فقد أصبحت الإجازة مجرد محطة عبور لا تمنح سوى ورقة ضعيفة القيمة أمام التحديات الاقتصادية، وأصبح الماستر الخيار الوحيد تقريباً أمام آلاف الطلبة، وكأنهم يدخلون سباقاً مؤجلاً مع البطالة.

 

الإجازة التي كانت في سنوات الثمانينيات والتسعينيات مفتاحاً لدخول الوظيفة العمومية أو القطاع الخاص، فقدت وزنها تدريجياً. التضخم في أعداد الحاصلين عليها، غياب الملاءمة مع حاجيات الاقتصاد، إضافة إلى ضعف البعد التطبيقي في التكوين، كلها عوامل جعلت الإجازة ورقة شبه فارغة في نظر المشغلين. لم تعد وحدها كافية، بل أحياناً تصبح عبئاً، تدفع بصاحبها إما إلى البطالة أو إلى البحث الحتمي عن مقعد في الماستر. الماستر نفسه لم يسلم من الإشكالات، إذ تحوّل إلى فضاء مزدحم بتخصصات كثيرة تُفتح أحياناً دون دراسة دقيقة لحاجيات الجهة أو لسوق العمل. عشرات الماسترات النظرية تنتشر في مختلف الجامعات، بينما سوق الشغل يبحث عن تقنيين ومهندسين وكفاءات مهنية. المنافسة على مقاعد الماستر صارت بدورها مسرحاً لاحتجاجات حول غياب الشفافية والزبونية أحياناً، فيما تراه الأسر المغربية محطة ضرورية تحفظ مكانة اجتماعية لأبنائها، حتى وإن كان المردود الاقتصادي شبه منعدم.

 

أحد أعمق الإشكالات التي تواجه الخريجين اليوم هو الفارق بين جهة الدراسة وجهة العمل، فالكثير من الطلبة ينهون مسارهم الجامعي في مدن معينة، لكن فرص العمل لا تتوفر في نفس الجهة. تدريس الطالب في الرباط أو الدار البيضاء أو فاس لا يعني بالضرورة أنه سيجد فرصة عمل هناك، بل غالباً سيضطر للبحث في جهات أخرى، قد تكون بعيدة عنه اجتماعياً وجغرافياً. هذا الواقع يولد صعوبة مزدوجة: التكيف مع سوق عمل جديد، والتنقل الجغرافي والاقتصادي، أحياناً مع تكاليف مالية ومعيشية كبيرة، وهو ما يزيد من إحباط الشباب الحاصلين على شهادات عليا.

 

سوق العمل المغربي لا يواكب هذا التدفق الكبير من الخريجين، فالقطاع العام أغلق أبوابه تقريباً أمام الأعداد الهائلة من الطلبة، والقطاع الخاص يظل موجهاً بالأساس نحو الكفاءات التقنية والعملية. هنا يظهر الخلل بشكل أوضح: آلاف من خريجي الشعب الأدبية والحقوقية والإنسانية يجدون أنفسهم في مواجهة فراغ وفرص ضيقة، بينما يستمر الطلب على المهندسين والتقنيين في مجالات الصناعة والتكنولوجيا. ينتقل الطالب بعد التخرج من مدينة الدراسة إلى مدينة البحث عن العمل، وما يصاحبه من تحديات اقتصادية واجتماعية، دون أن تتوافر له أي شبكة دعم فعلية أو استراتيجيات تيسّر هذا التنقل.

 

النتيجة أن التعليم العالي في المغرب أصبح طريقاً مليئاً بالمتاهات، شهادات كثيرة بدون وزن حقيقي في سوق العمل، وطلبة يضطرون لمواصلة الدراسة للحصول على ماستر أو شهادة إضافية كوسيلة لتأجيل مواجهة البطالة. الجامعة تفتح أبوابها كل سنة لآلاف الطلبة، تمنحهم إجازات وماسترات وشهادات، لكنها لا توفر لهم طريقاً واضحاً نحو الاستقرار المهني، خصوصاً عندما يكون العمل في جهة أخرى بعيداً عن مكان الدراسة، وهو أمر يضاعف أزمة البطالة ويزيد شعور الشباب بالإحباط واليأس.

 

بين الشهادات المتعددة التي تُمنح سنوياً والمنافسة الضاغطة على فرص عمل محدودة، يبقى السؤال الحاسم: إلى أين تتجه الجامعة المغربية؟ هل ستظل مجرد سوق للشهادات، أم أن هناك رؤية لتصحيح المسار وربط التعليم بسوق العمل بشكل فعلي؟ الواقع اليوم يشير إلى أزمة عميقة في الإطار التكويني، حيث التعليم النظري يتجاوز بكثير حاجيات الاقتصاد العملي، والطموحات الفردية تضيع في فجوة بين مكان الدراسة ومكان العمل.

 

إذا عدنا إلى جذور المشكلة، نجد أن التعليم العالي في المغرب لم يُبنَ فقط على رؤية تعليمية بقدر ما هو مرتبط بسياسات متناقضة بين الدولة واحتياجات الاقتصاد. على الورق، تبدو الجامعات المغربية وكأنها تقدم فرصاً متنوعة لكل الطلاب، لكن الواقع يقول إن معظم هذه الفرص موجهة نحو التراكم الكمي وليس النوعي. وزارة التعليم العالي تتحدث عن تطوير التكوين وربط الجامعة بسوق العمل، لكنها في الممارسة العملية تُبقي على فتح تخصصات جديدة دون دراسة دقيقة للحاجيات الإقليمية والقطاعية، وهو ما يؤدي إلى تراكم الإجازات والماسترات التي لا تجد مخرجاً في سوق العمل.

 

إشكالية التباعد بين جهة الدراسة وجهة العمل تُعد من أكثر المشاكل المستعصية. الطالب يدرس في مدينة كبيرة مثل الدار البيضاء أو فاس، ويكتسب شهادات عليا، لكن فرص العمل غالباً ما تتواجد في مدن صناعية أو مناطق استثمارية بعيدة، أو حتى في القطاع الخاص الذي يتركز في مناطق معينة فقط. هذا الفارق يولّد ضغوطاً نفسية ومادية كبيرة على الشباب، ويخلق فجوة بين تكوينهم النظري ومتطلبات الاقتصاد المحلي، فيصبحون عرضة للهجرة الداخلية أو حتى الخارجية، في مسعى يائس لإيجاد مكان لهم في سوق العمل.

 

الظاهرة ليست محصورة في مدينة أو جهة معينة، بل هي مشكلة هيكلية في نظام التعليم العالي المغربي. الكليات والمدارس العليا تتكاثر بسرعة، وعدد الطلبة يزداد بشكل مستمر، بينما الاقتصاد الوطني لا يخلق فرص عمل متكافئة. القطاع العام شبه مشبع، والقطاع الخاص يختار خريجي التخصصات التقنية والهندسية، تاركاً آلاف خريجي الكليات النظرية والأدبية في معركة صعبة مع البطالة. التناقض صار صارخاً: الطالب يبذل سنوات طويلة في تحصيل المعرفة، لكنه يجد نفسه بعد التخرج مضطراً إما للاستمرار في الدراسة بشكل شكلي أو الانتقال إلى مدينة أخرى للعمل بأجر أقل بكثير من المستوى العلمي الذي وصل إليه.

 

تضاعف الماسترات دون دراسة دقيقة لحاجيات السوق يساهم في تكريس هذه الأزمة. عشرات الماسترات النظرية تُفتح سنوياً في جميع الجامعات، لكن أغلبها لا يوفر فرصة حقيقية في الوظائف المتاحة. الطالب الذي يسعى للحصول على ماستر في تخصص لا يواكب سوق العمل يجد نفسه أمام طريق مسدود، وعادة ما يلجأ إلى مزيد من الدراسات أو التدريب التطبيقي خارج المغرب، في حين أن الدولة تميل إلى التركيز على الكم لا النوع، أي فتح المزيد من المقاعد دون ربطها بسياسة تشغيل واضحة.

 

من الناحية الاجتماعية، تتحول هذه المعاناة إلى شعور عام بالإحباط. الشباب يشعرون بأن الجامعة أصبحت مجرد مكان لتأجيل البطالة، وليس لبناء مستقبل مهني مستقر. الأسرة المغربية تراها وسيلة اجتماعية للحفاظ على مكانة اجتماعية، لكن على المستوى العملي، هذه الشهادات لا تمنح قيمة فعلية إلا في عدد محدود جداً من الوظائف. التباعد بين مكان الدراسة ومكان العمل يولد مشكلات إضافية مثل تكاليف التنقل والسكن، خاصة إذا اضطر الطالب للانتقال من جهة الدراسة إلى جهة أخرى للبحث عن فرص عمل، وهو ما يزيد الضغط الاقتصادي على الأسر ويزيد من إحباط الشباب.

 

على المستوى الاقتصادي، هذا الوضع يعكس خللاً هيكلياً: الدولة تستثمر في الجامعات لكن سوق العمل لا يواكب هذه الاستثمارات. كثير من مشاريع التنمية تركز على قطاعات محددة مثل الصناعة والخدمات التقنية، بينما مخرجات الجامعات تأتي غالباً بتخصصات نظرية أو عامة. النتيجة أن الاقتصاد الوطني لا يستفيد بالشكل المطلوب من خريجي التعليم العالي، والجامعات تعيش دورة من الإنتاج الكمي للشهادات بدون مردود اقتصادي ملموس.

 

حتى الحلول المقترحة رسمياً تبدو محدودة التأثير. برامج التكوين المهني والتحفيز على التدريب العملي موجودة على الورق، لكنها غالباً لا تصل إلى جميع الطلبة، أو تكون محدودة في نطاقها الجغرافي، فلا تغطي الطلاب الذين يدرسون في جهة واحدة ويبحثون عن عمل في جهة أخرى. هذا يترك فجوة بين التعليم والتوظيف، وهي فجوة تتسع عاماً بعد عام مع زيادة عدد الجامعات وعدد الماسترات دون تخطيط استراتيجي واضح.

 

في هذا السياق، يمكن القول إن الجامعة المغربية تواجه مأزقاً مزدوجاً: مأزق داخلي يتعلق بالمسارات التعليمية وتعدد الماسترات دون قيمة فعلية، ومأزق خارجي يتعلق بارتباط هذه الشهادات بسوق العمل المتباعد جغرافياً ومحدود الإمكانات. الطالب الذي يدرس في جهة ما لا يملك أي ضمانات حقيقية للاندماج في سوق العمل، ويضطر أحياناً للانتقال إلى جهات أخرى بحثاً عن فرص لا تتناسب مع شهاداته العلمية، ما يضاعف الإحباط ويزيد من إحساسه بعدم جدوى سنوات الدراسة الطويلة.

 

الوضع يطرح أسئلة جدية حول مستقبل الجامعة المغربية: هل ستستمر في طريقها الحالي، مفتوحة للجميع بدون دراسة جدوى لسوق العمل، أم أن هناك ضرورة لتطوير رؤية شاملة تربط بين تكوين الطلبة وحاجيات الاقتصاد المحلي والوطني، مع مراعاة الفوارق الجغرافية بين جهة الدراسة وجهة العمل؟ الإجابة على هذا السؤال ستكون حاسمة لمستقبل آلاف الشباب الذين يعتمدون على التعليم العالي كطريق رئيسي لبناء حياتهم المهنية والاجتماعية.

 

 

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي جريدة البديل السياسي