مذكرات الأستاذ الجليل علي البرقوقي حفظه الله:
جريدة البديل السياسي
مذكرات الأستاذ الجليل علي البرقوقي حفظه الله:
– كلمات –
عندما التحقتُ، أولَ مرة، بعملي بإحدى الثانويات بمدينة القنيطرة، للتدريس بها، في شتنبر1981، تعرفتُ إلى سيدة خمسينية؛ مكلفةٍ بمهامّ غيرِ محددة؛ أبْيَنُها وأظْهرُها تنظيفُ بعضِ مرافق المؤسسة، وإعدادُ الشاي للأساتذة في حصتيِ الاستراحة؛ الصباحية والمسائية .
وامتدَّ حبلُ المودة بيننا وتعزَّزَ عندما عرفتْ أنني من أصول ريفية. صرنا نتواصل بالريفية، خاصة أن العربية كانت ثقيلةً على لسانها.
سردتْ لي على فتراتٍ متقطعةٍ حكايتَها. مأساة. هي واحدةٌ من ضحايا سياسة النظام الجزائري الذي طرد الآلاف من المغاربة في منتصف السبعينيات من القرن العشرين(بدأت حكومة الجزائر عملية الطرد والتهجير صباح يوم عيد الأضحى من سنة 1975 رداً على قيام المغرب بالمسيرة الخضراء.
وقد راج آنذاك في بعض وسائل الإعلام أن عدد المطرودين فاق 350 ألفاً؛ أي عدد المشاركين في المسيرة الخضراء. أرى مبالغةً في الرقم؟؟). لجأت وزارة الداخلية المغربية آنذاك إلى توزيع هؤلاء الضحايا على عدة أقاليم لاستضافتهم. كانت القنيطرة من حظ هذه السيدة.
كان زوجها المغربي قد مات، ولكن أولادها وَحَفَدَتَها ومعارفَها ظلوا هناك لأنهم جزائريون بالولادة. أما هي التي ظلت مغربية بالرغم من السنين الطويلة التي قضتها في الجزائر، فكان لابد من بترها، وفصلها عن نصفها كما يُفصل التوأمُ السياميّ. المغربيّ والجزائريّ كيانٌ سياميٌّ واحدٌ أصلُه ثابتٌ في رحم الأرض المشتركة منذ الأزل.
هكذا في ملتي واعتقادي. ولا شك أنني حدَّثتُ هذه السيدةَ بما سمعتُه في طفولتي عن أقاربَ لي رحلوا إلى “الشرق” (حتى زمنٍ قريبٍ ظلتْ كلمةُ “الشرق” في منطقة الريف تعني أرضَ الجزائر)؛ لتوافُر العمل في معامل المستوطنين الفرنسيين وضيْعاتهم وحقولهم؛ حتى إذا طال عليهم الأمدُ هناك انصهروا في تربته مع ذرياتهم، نسباً وصِهْراً، فصار لهم في تلك الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ.
ولعلي راعيتُ مكتسباتِها المعرفيةَ المحدودةَ فأحجمتُ عن تزويدها بمعلومات كثيرة عن علاقة الشعبيْن؛ المغربي والجزائري؛ اللذيْن كانا على اتصالٍ وتواصلٍ دائميْن بفعل الحركة المكثفة بين الضفتين؛ إذ لم تكن بينهما أيةُ حدود تفصل بينهما؛ حتى أنّ من الريفيين من كان يقسم السنة شطريْن: شطراً في الجزائر لبيع غلته وثماره، وشطراً يعود فيه إلى مسقط رأسه.
كانت من وقتٍ لآخر تأتيني برسائلَ بريديةٍ تصلها من أقاربها بالجزائر فأقرأها لها، وأترجمها لها إلى الريفية، ثم أشرع في أثرها في كتابة الردود عليها.
ذات يوم كان حديثها إليَّ عن زوجها. تمادتْ في الكلام. قالت إنه كان حين يتهيّأ للخروج يلبس أحسن الثياب. يضع طربوشه. يمسّد شاربه. يأخذ عصاه ثم ينطلق. ولم يكن ينظر في المرآة. كان يلتفتُ إليَّ وهو يستقبل البابَ للخروج قائلاً: كيف تجِدِينَنِي؟
قالتْ:
” كان يقول لي: أنتِ مرآتي، وأنا مرآتُكِ”.
أكان صوتُها الحميمُ الدافئ الصاعدُ من أعماقها، المشوبُ بالحنان والحنين، هو الذي جعل عبارتَها الأخيرةَ تَعْلَقُ بتجاويفِ ذاكرتي وتثبتُ في أعماقي سنين عددا؛ أم كلماتُ الرجل- تحديدا- التي أسمَعَها المرأةَ؟ عاطفةُ المرأةِ المتأججةُ أم لغةُ الرجلِ الساميةُ؟
كلماتُ الرجل قطعاً. الكلمةُ هي التي تخلُدُ وتبقى؛ وما سواها خيطُ دخانٍ. لا شك أن الرجل قد بذل جهدا في اختيار كلماته؛ ولكنه لم يتقعَّرْ من جهة، ولم يقنعْ بالمبتذَل منها من جهة أخرى. تفادى الكلمات والعبارات المسكوكة المطروحة في الطريق. وكان يكفيه أن يستعين بكلماتٍ من كِتاب العشق والحب المفتوح منذ غابر السنين؛ مألوفةٍ ومحفوظةٍ في جراب الكلام المأثور والفلكلور و التراث والأغاني والأفلام (لنفترض أن الرجل عرف السينما في زمانه) ليبلّغ رسالته لزوجته.
ولكنه لم يركن الى التقليد والاتباع. وإنما عبَّرَ بعد أن اختار وتجنَّب. وما الكلام السامي إلا ثمرةُ هذه القدرة على الاختيار والتجنّب. وما أكثر المتكلمين والكاتبين الذين يَضيعون بين الحاليْن. الكلام السامي لا ينتج عن اختيار الكلمة المناسبة فقط؛ وإنما في تجنُّبها أيضا. فئة قليلة أوتيتْ هذه القدرة: المبدعون.
……………………………………………………………….
دعْ ذَا.
دعْك أنت أيضا من هذا التقعر المبالَغ فيه؛ والتفت إلى ما في الحكاية من ألَقِ المحبة والصحبة ونور المودة. ألا ترى وراء الكلمات حباً سلساً ليّناً؛ لا منعرجاتٍ فيه ولا انحرافاتٍ؟ حب دافئ. رصين. عاقل. ناضج. قنوع. حبُّ عطاءٍ وبذلٍ؛ لا حبَّ حرمانٍ. حبٌّ لاعذابَ فيه ولا ضنَى.
لا بكاءَ ولا تأوهات. حبٌّ لا ينتهي بالجنون ولا بالموت ولا بالقتل كما توهَّم الشاعر الذي سأل: “هل يقتلُ الرجلَ الحبُّ؟”
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار