كتاب وآراء

ظلم امرأة… بقلم الأستاذ عبد القادر بوراص

جريدة البديل السياسي 

ظلــــــــم امـــــــــــرأة

بقلم الأستاذ  عبد القادر بوراص

عقد حمادي العزم على تسجيل ابنه حمزة ليلج المجموعة المدرسية الرابضة بأعلى التل المطل بشموخ على المساكن الطينية المبعثرة هنا وهناك بالقرية، إلا أن خالته الخامسة ألحت على استضافته للإقامة عندها بالمدينة ويرافقها في وحدتها بعد أن توفي زوجها البختي دون أن يخلف ذرية، رغم أنه زار أكثر من طبيب، بل وقصد الرقاة وغير قليل من المشعوذين وتناول ما ضمته وصفاتهم من أعشاب ولحوم جافة مجهولة المصدر، مما أثر على صحته كثيرا.

الخامسة سماها والدها بهذا الإسم لأنها كانت الخامسة في عنقود أسرته المتكونة من أحد عشر فردا، عاشوا في فقر مدقع معتمدين على فلاحة معيشية متواضعة جدا بعد أن طوع رب الأسرة الأرض الحجرية التي كانت نصيبه من الإرث الذي تقاسمه مع إخوته الذكور، فيما حرمت الإناث من حقهن دون وجه حق، ولم يطالبن بنصيبهن رغم تحريض بعضهن من أزواجهن، واكتفين بالشكوى لله سبحانه وتعالى.

الخامسة كانت في جمالها كواسطة العقد حتى أن نساء القرية كُنَّ ينادينها “*الخميسة” بدل الخامسة. كان الشبان ينتظرون بشوق مجيئها لتملأ جرتها من عين الماء الجارية، وهي مصدر التزود بالماء الوحيدة. وحين تسرب الخبر إلى إخوانها منعوها من الخروج، ونابت عنها أختها الصغرى في مهمة جلب الماء.

تزوجها البختي تاجر الأثواب والملابس التقليدية دون أن يراها في يوم من الأيام وإنما والدته هي من اقترحتها عليه بعد أن التقتها مع أمها في إحدى الولائم وأعجبت بها، وحتى يصبح إعجابها يقين العين تبعتها إلى حمام الحومة في غفلة منها واكتشفت مفاتنها، وغادرت الحمام وهي مرتاحة البال لأن عروسة ابنها تجمع بين جمال العقل والجسد.

زفت الخامسة إلى زوجها ذات صيف كثرت خيراته حيث المحاصيل الزراعية كانت كبيرة للغاية، وتناسلت الماشية وتكاثرت، وجادت الأشجار بثمارها إلى درجة لم تجد من يقطفها، وازداد صبيب عين القرية تدفقا، وامتلأ بيت زوجها خيرات وبركات، فاقترن اسم الخامسة بعام الخير والخمير. ولأنها امرأة بدوية فقد تعلمت كل فنون الطبخ والطهي، وخدمت زوجها وأفراد أسرته ليل نهار بتفان وإخلاص. كان الكل سعيدا لولا تأخر حمل الخامسة وانتظار البختي لطفل يزهر حياته وينير طريقه، فكان لا بد من زيارة الطبيب الذي أقر بعد الفحص والتحليلات المخبرية أن المرأة ولود وزوجها يعاني من مرض مزمن فات أوان علاجه وأثر على جهازه التناسلي، وجعله شبه عقيم. خبر نزل على رأس البختي كالصاعقة فغشي عيناه ضباب منعه من الرؤية وفقد وعيه. حمله الطبيب بمساعدة ممرضة وزوجته ووضعه فوق سرير وسارع إلى تقديم الإسعافات الأولية له، ثم عاد لزبائنه المرضى التي غصت بهم قاعة الانتظار وتركه رفقة الخامسة التي اصفر وجهها وبدا شاحبا على غير عادتها، وجحظت عيناها وشل لسانها، وكادت أن يغمى عليها هي الأخرى لولا مقاومتها الصلبة التي استمدتها من حياة القرية قبل زواجها والاستقرار بالمدينة.

استفاق البختي وأخذ يصرخ مناديا زوجته، فشدت الخامسة يده بلطف وحاولت تهدئته وطمأنته. طالبها بإشعال النور فأخبرته بأن الغرفة مضاءة، فتعجب كيف أنه لم يعد يرى سوى الظلام الحالك، وهو الأمر الذي حير الطبيب أيضا، فنصحه بضرورة زيارة طبيب العيون، فاستجاب لطلبه فورا، حيث قصد طبيب العيون الوحيد بمدينته الصغيرة قبل أن يقوم بزيارة كل الأطباء بالمدن الكبرى المجاورة وتلك الواقعة بالمغرب النافع، إلا أن أمله في الشفاء قد انقطع كما خاب سعيه سابقا في الإنجاب.

أصبحت الخامسة الضوء الساطع الذي ينير الطريق لزوجها بعدما فقد بصره، وكان يصطحبها معه لدكانه وعلمها طرق البيع والشراء، مما جر عليه سخط بعض أفراد اسرته وأقاربه فقاطعوه وشنوا حملة مسعورة ضد زوجته واتهموها بأقدح الصفات، فأثر ذلك على نفسيته كثيرا وأصبح انطوائيا لا يحدث أحدا.. وهكذا وجد البختي نفسه سجين عماه وضحية ألسنة أقاربه وظلم عدم الإنجاب، ومع ذلك حمد الله ورضي بقدره، وأفرغ معاناته الداخلية في الإقبال على العبادة والذكر والصلاة، ليتوج كل ذلك بأدائه الركن الخامس في الإسلام ويحج مع زوجته إلى بيت الله الحرام، وبمشعر عرفات أسلم روحه إلى بارئها.

خبر وفاة البختي بالديار المقدسة بقدر ما أحزن زوجته الخامسة وأهلها، فقد أفرح أفراد اسرته كثيرا، وعقدوا اجتماعا طارئا قرروا بموجبه اقتحام دار المتوفى والاستيلاء على دكانه باعتبارهم ورثة شرعيين، وتوجه بعضهم إلى بنك المدينة وطالب بتجميد الأرصدة المالية للتاجر البختي إلى حين إجراء عملية القسمة بين الورثة.

عادت الحاجة الخامسة إلى الديار وقد ارتدت السواد حزنا على فراق شريك حياتها لتجد أهله قد احتلوا منزلها، ولم تتمكن من دخوله إلا بعد معركة اشتعل أوارها وحمى سعيرها خاضها أفراد أسرتها مع الدخلاء المعتدين بدأت بتبادل السب والقذف والشتم وانتهت بتبادل الضرب واللكم والجرح تدخلت على إثرها مصالح الأمن الوطني وأعادت الأمور إلى سابق عهدها، مع إحالة القضية على أنظار العدالة.

وفي المحكمة وقف أهل الزوج مشدوهين منبهرين ورئيس الجلسة يقرأ عليهم مضمون الحكم الذي يشير إلى أن جميع أملاك وأموال المسمى قيد حياته البختي تعود لزوجته الخامسة بمقتضى القانون وفقا للعقود التي وقعها المتوفى قبل ذهابه إلى الحج بأشهر قليلة.

عادت الخامسة إلى بيتها وهي تكفكف دموعها متأثرة بوفاء زوجها. وبعد انقضاء عدتها فتحت دكانها لممارسة التجارة بعد أن أصبحت خبيرة في عملية البيع والشراء، وراكمت ثروة كبيرة خصصت جزءا منها لمساعدة دور المسنين والعجزة واليتامى صدقة على زوجها. واستقبلت ابن أخيها حمزة في منزلها لمتابعة دراسته الابتدائية بمدرسة الحي القريبة، وكانت تصطحبه معها للدكان في وقت فراغه لتعلم أصول التجارة.

هوامش:

* الخميسة: تعويذة للحماية من الحسد وقطعة من الحلي تتزين بها المرأة المغربية.

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع جريدة البديل السياسي لمعرفة جديد الاخبار