: “المواطن المحلل”
بقلم: الشهبي أحمد
أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا
في زوايا المقاهي الكئيبة التي يغطيها الغبار، حيث تتشابك رائحة القهوة المُرة مع أنفاس الزمن الراكدة، وتتداخل أصوات الأكواب الزجاجية مع همهمات النقاشات العالية، يولد عالمٌ موازٍ لا يشبه ما اعتدنا عليه في كتب التاريخ أو حكايات الأجداد. إنه عالمٌ يتربع فيه “المواطن المحلل” على عرشٍ وهمي، مزدانٌ بتاجٍ من الثقة العمياء التي لا تستند إلى أي جذور معرفية حقيقية. هنا، في هذه المساحات التي كانت يوماً ملتقىً للأحاديث البسيطة وتبادل الأخبار اليومية، تحولت الطاولات إلى منابرَ للخطابة، والكراسي إلى كراسي أكاديمية لم يُمنح أصحابها شهاداتها إلا من أنفسهم. إنها ظاهرةٌ تجمع بين السخرية والمأساة، حيث يتقمص الجميع دور العالم السياسي، المحلل الاستراتيجي، المدرب الرياضي، بل وحتى القاضي العادل، دون أن يرف لهم جفنٌ أو يعتريهم شكٌ في محدودية ما يملكون من أدوات أو معرفة.
في الماضي، كان للعلم طريقه الطويل المُتعرّج، مليءٌ بالكدّ والتعب، حيث كان الإنسان يقضي عقوداً في الدراسة والبحث، يفتش في الكتب، يناقش الأفكار مع الأساتذة، ويختبر النظريات في مختبرات الحياة. أما اليوم، فقد أصبحت تلك العملية الشاقة مجرد ذكرى بعيدة، تُختصر في لمسةٍ على شاشة هاتفٍ ذكي أو نقرةٍ على لوحة مفاتيح. لقد تحوّلت الساحة العامة، التي كانت يوماً حلبةً للنقاش المُنظّم والحوار المُثمر، إلى مسرحٍ مفتوحٍ لا قواعد فيه ولا حدود. الجميع فيه ممثلون، يرتدون أردية الخبراء المزيفة، يتقمصون أدواراً لم يتدربوا عليها، ويطلقون الأحكام دون أن يُلقوا نظرةً واحدةً على السيناريو الأصلي للواقع. في هذا الكرنفال اللامتناهي، تتهاوى السياسة لتصبح نظرية مؤامرة تُروى كحكاية قبل النوم، والرياضة تتحول إلى لعبة أطفال تُحلل بأدواتٍ بدائية، والعدالة تُختصر في تعليقٍ ساخرٍ يُكتب على عجل بين رشفتين من الشاي. أما الحقائق، تلك الأوراق الهشة التي كانت يوماً عماد الحضارة، فإنها تتساقط كأوراق الخريف الجافة، تُداس تحت أقدام هؤلاء “الخبراء الجُدد” الذين لا يملكون سوى صوتٍ عالٍ وثقةٍ مُزيفة.
لم يعد الأمر يقتصر على مجرد مشاركة آراء عابرة، كما كان يحدث في الماضي حين كان الناس يتبادلون الأفكار بحذرٍ وتواضع. بل تحول إلى ما يشبه الإدمان الجماعي، إدمانٌ على لعب دور “الإله الصغير” الذي يملك كل الإجابات ويحمل كل الحلول. انظر إلى ذلك الرجل الجالس في زاوية المقهى، يلوّح بيديه كما لو كان قائد أوركسترا عظيمة، وهو يشرح بكل ثقة كيف أن الحرب العالمية القادمة ستندلع بسبب منشورٍ فيسبوكي كتبه شخصٌ مجهول في قريةٍ نائية. ما الذي يمنحه هذه الجرأة الأسطورية التي تتحدى المنطق والعقل؟ إنها تلك الشاشة الصغيرة في جيبه، التي تحوّلت إلى مفتاحٍ سحري يفتح أبواب كل العلوم والمعارف، كأنها شهادة دكتوراه فخرية تُمنح دون امتحانات أو شروط. إنه عصرٌ جديدٌ غريب، حيث تُقاس الخبرة بعدد الميمز التي تشاركها على الواتساب، وتُختزل المعرفة في شريط أخبارٍ يتدحرج بلا توقف، ويصبح الفارق بين الحقيقة والوهم مجرد مسألة تفاعلاتٍ رقمية: “لايك” هنا، و”شير” هناك.
في ملعب الحياة هذا، حيث يحمل كل متفرج صفارة حكمٍ وهمية، لا يقتصر الأمر على السياسة أو الاقتصاد، بل يمتد إلى كل المجالات. ها هو “المدرب العبقري” يجلس على كرسي المقهى، يصرخ في هاتفه بينما يتصبب عرقاً من كثرة الجلوس والكلام: “أنا قلت لك سنخسر المباراة لو دخل اللاعب رقم 10!”، وهو يتناسى أنه لم يركل كرةً في حياته، وأن أقصى تجربته الرياضية ربما كانت مشاهدة مباراةٍ قديمة على التلفاز. المفارقة العجيبة أن هؤلاء “المحللين الرياضيين” يبنون تحليلاتهم على ذكرياتٍ مشوشة من مبارياتٍ سابقة، أو على مشاعر شخصية لا علاقة لها بالمنطق أو الإحصائيات. بالنسبة لهم، كرة القدم ليست رياضةً تحتاج إلى فهم التكتيكات أو الاستراتيجيات، بل مساحةٌ مفتوحة لتفريغ الإحباطات اليومية، حيث يمكن للجميع أن يصبح ناقداً أو مدرباً أو حتى لاعباً وهمياً، دون أن يبذل أدنى جهدٍ حقيقي. من يحتاج إلى دراسة قوانين اللعبة أو متابعة الإحصاءات، عندما يمكنك أن تُلقي باللوم على المدرب ببلاغةٍ تفوق خطب الزعماء التاريخيين؟
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يصل إلى ذروته حين تتحول قضايا العدالة والقانون إلى مسرحياتٍ ساخرة تُعرض في قسم التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي. هنا يظهر “المحقق الافتراضي”، ذلك الشخص الذي يحلّ الجرائم المعقدة بين رشفات الكابتشينو ونظراتٍ متعجرفة إلى الشاشة. خبرته؟ قليلٌ من المشاهدة المكثفة لمسلسلات الجريمة مثل “البت كوخ”، وربما ثلاثة أفلام لجيمس بوند أضفت عليه هالةً من الذكاء الخارق. في هذا العالم الافتراضي، تُلغى قرينة البراءة لصالح الإثارة الدرامية، وتصبح العدالة مجرد مسابقة شعبية تُحدد نتائجها بعدد الإيموجي الغاضبة أو التعليقات الساخطة. هل يمكن أن نتخيل يوماً يُحاكم فيه مجرمٌ حقيقي بناءً على آراء جمهور السوشيال ميديا؟ البعض قد يقول إن هذا المستقبل ليس بعيداً، بل ربما بدأنا نعيشه بالفعل في ظل هذا الفوضى المعرفية.
ما يحدث اليوم ليس مجرد ظاهرة عابرة يمكن أن نضحك عليها وننساها، بل هو انعكاسٌ عميق لمرضٍ حضاري خطير ينخر في أساس مجتمعاتنا. إنه إدمانٌ على التمثيل بدلاً من الفعل الحقيقي، على الاستعراض بدلاً من الإنتاج المثمر، وعلى الثرثرة العقيمة بدلاً من التفكير العميق. لقد تحوّلت المعرفة إلى سلعة استهلاكية سريعة التحضير، كوجبةٍ جاهزة تُباع في مطاعم الوجبات السريعة، بينما أصبحت الحكمة كنزاً قديماً مدفوناً لا يليق بعصر السرعة والاستهلاك. المشكلة ليست في الرغبة الطبيعية للمشاركة والتعبير عن الرأي، فهذه غريزة إنسانية نبيلة، بل في الوهم الجماعي الذي يجعلنا نخلط بين الحقوق والاختصاصات، بين الرأي الشخصي والعلم الموضوعي، بين حرية التعبير ومسؤولية الكلمة.
وسط هذا الضجيج المستمر، يبرز سؤالٌ مقلق يفرض نفسه على العقل الواعي: ماذا سيحدث لو استمرت هذه المسرحية إلى ما لا نهاية؟ ماذا سيتبقى للخبراء الحقيقيين، أولئك الذين قضوا سنواتٍ طويلة في صقل مهاراتهم واكتساب معارفهم، عندما تُختزل علومهم في مقطع صوتي مدته ثلاثون ثانية على تيك توك؟ كيف يمكن لطبيبٍ أن يقنع مريضاً عنيداً بأن وصفة “الجدّة” التي شاهدها على اليوتيوب ليست بديلاً عن تشخيصٍ طبي دقيق؟ كيف يمكن لمهندسٍ أن يبني جسراً آمناً بينما يجادل الجميع في تصميمه بناءً على صورةٍ شوهدت على إنستغرام؟ إننا بدأنا ندفع ثمن هذا الوهم بالفعل: مجتمعاتٌ تزداد انقساماً وتشظياً، وحواراتٌ تتحول إلى معارك ضبابية لا هدف لها، وقراراتٌ مصيرية تُتخذ بناءً على أغنية راب شعبية أو منشورٍ ساخرٍ انتشر بسرعة البرق.
ربما حان الوقت لنعيد التفكير في معنى الحرية الحقيقية. الحرية ليست إلغاءً للحدود أو فوضى بلا ضوابط، بل هي فهمٌ عميق لطبيعة المساحات التي نتحرك فيها. الرأي الشخصي كنزٌ ثمين يعكس هويتنا وتفردنا، لكنه يتحول إلى سلاحٍ فتاك حين يُقدَّم كبديلٍ عن التخصص والعلم. الفرق بين النقاش البناء والهراء الفارغ هو نفس الفرق بين فنجان قهوةٍ يُحضَّر بعناية ليفتح العقل ويوقظ الحواس، وآخر يُسكب على عجل ليزيد الدوخة والارتباك. وقبل أن نلقي باللوم على المنصات الرقمية ونحمّلها مسؤولية هذا الانحدار، علينا أن نعترف بصدقٍ أن التكنولوجيا لم تخلق منا جهلة من العدم، بل كشفت عن جهلٍ كنا نُخفيه خلف ستار الحياء المجتمعي والتقاليد القديمة.
في النهاية، لن يسألنا التاريخ عن عدد التعليقات التي كتبناها على فيسبوك، أو عدد المنشورات التي شاركناها على تويتر، بل سيسألنا عن الجمال الذي أضفناه إلى هذا العالم، أو الدمار الذي ساهمنا فيه بوعي أو دون وعي. ربما يأتي يومٌ ندرك فيه أن الإنسانية لم تنجح عبر التاريخ بالصراخ العالي والادعاءات الفارغة، بل بالاستماع الهادئ والتعلّم المتواصل. لم تتقدم بالتعالي والغرور، بل بالتواضع واحترام حدود المعرفة. لم تسُدْ بالتفاخر بالجهل، بل بالسعي الدؤوب نحو الحكمة. حتى ذلك اليوم المأمول، ستظل مقاهينا مليئة بـ”الوزراء السابقين” الذين يديرون العالم من خلف طاولاتهم، و”المدربين الأسطوريين” الذين يفوزون بكل المباريات في خيالهم، بينما تتراقص الظلال على جدران الكهف، مخلدةً عصرنا الذهبي: عصر الجهل المُعلن بفخرٍ لا يُضاهى، والمعرفة الحقيقية المُهمَشة بخجلٍ لا يُبرر.
تعليقات
0