جريدة البديل السياسي |كتاب وآراء

من ذكرياتي…بقلم الاستاذ جمال الغازي

582-1

جريدة البديل السياسي – بقلم الاستاذ جمال الغازي 

 

في مدينة الناظور، تلك المدينة التي يلامسها البحر من جهة، وتحتضنها الجبال من جهة أخرى جبال بوبلاو الشامخة، كانت الطفولة تشبه نسيمها: نقيّة، عفوية، ومليئة بالحياة. في أوائل السبعينات، حين كانت الشوارع أهدأ، والليل أكثر صفاء، كان شارع الجامعة العربية قلب الحيّ ونبض ذكرياتنا الأولى.

في ذلك الشارع حبوت ، وتعلمت معنى الفرح البسيط. كنا، نحن أطفال الحي، ننتظر غروب الشمس بفارغ الصبر لنبدأ لعبتنا المفضلة: “البوليس والسارقين” بوليسية ذي شفان. كانت اللعبة مشهورة بين أطفال تلك الأيام، لكنها بالنسبة لنا كانت أكثر من مجرد تسلية؛ كانت مغامرة صغيرة في عالم لم نكن نعرف منه سوى الركض والضحك والاختباء.

وحين يغمّ الليل، تبدأ المتعة الحقيقية. كانت الأنوار القليلة المتناثرة على امتداد الشارع تزيد المكان سحرا وغموضا. هناك، بين الحفر العميقة التي أُعدّت لغرس الأشجار، كنا نجد مخابئنا. في تلك الحفر كنا نختبئ، نتنفس الخوف والمرح معا، ننتظر من يلعب دور “الشرطي” ليبحث عنا فلا يجد سوى صدى أنفاسنا المخبأة في الظلام.

أحيانا كنا نهرب بعيدا، نركض حتى نكاد نبلغ البحر. كان البحر ساكنا في البعيد، يلمع تحت ضوء القمر كأنه يراقب لعبنا بصمت حنون.

وفي ليلة من تلك الليالي، بينما كنت أجري بكل ما فيّ من خوف ولهفة، رأيت شيئا لم أنسَه طوال حياتي.

شعرت فجأة بأن لي ثلاث أرجل؛ كانت إحداها خلفي، تتحرك معي، بل تسبقني بخفة غريبة. التفت خلفي، فلم أرَ أحداً. لا صوت، لا ظل، سوى ارتجاف ضوء مصباح بعيد وقلبي الذي يخفق بعنف.

توقفت لحظة، ثم واصلت الركض نحو البحر، وكأنني أهرب من نفسي.

ومضت خمسون سنة منذ تلك الليلة، وما زالت تلك “الرجل الثالثة” تركض في ذاكرتي، لا أعرف إن كانت وهما صنعه الخوف أم حقيقة مرّت بجانبي ثم اختفت.

واليوم، حين أستعيد المشهد، أجد أنني لم أكن أهرب من شرطيٍ في لعبة، بل كنت أهرب من ظل يسكن داخلي، ظلّ الطفولة التي لم تغادرني قط.

ربما كانت تلك الرجل الثالثة رمزا للطفل الذي بقي هناك، في شارع الجامعة العربية، ما زال يركض ويلهو في المساء، بينما أنا صرت الرجل الذي لا يركض إلا في ذاكرته.

لقد علمتني تلك الحادثة أن الإنسان لا يكبر تماما، بل يحمل في داخله أشباح ماضيه تركض معه في دروب الحياة، تذكّره أحيانا بخوفه الأول، وتمنحه أحيانا أخرى دفء الحنين إلى زمن كان فيه كل شيء بسيطا… وصادقا.

ختاما اعلم انك لن تصدق حكايتي!

من ذكرياتي

جمال الغازي

 

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي جريدة البديل السياسي