جريدة البديل السياسي – بقلم الأستاذ جمال الغازي
لأنني لا أملك سيارة !
كان يوما رماديا ثقيلا، تتساقط فيه أمطار غزيرة كأنها تواسي روحا مثقلة بالهموم.
الرياح تعصف في رحلتي كأنها تنقل صراعي الداخلي مع نفسي، وأنا أقف على رصيف محطة القطار. المطر لا يرحم، البرد ينفذ إلى العظام، والقطار كعادته في هذا الفصل البارد مزدحم ومتعثر في مواعيده. كنت في طريقي إلى مدينة بعيدة لحضور حفلة تقام تخليدا لأعياد وطنية، لكن الرحلة بدت وكأنها اختبار جديد لقدرتي على التحمل.
وقفت طويلا في ازدحام الركاب، وألم ركبتي يزداد مع كل لحظة. رأسي مثقل بوجع ينبض كطبول الحرب، والتوتر يتسلل إلى كل خلية في جسدي خوفا من أن يفوتني الموعد مع صديق ينتظرني هناك.
ومع كل لحظة انتظار، كان سؤال يتكرر بداخلي كخنجر: “لماذا أفعل هذا بنفسي؟ لماذا لا أستريح؟ لماذا لا أعتزل هذا الركض الذي لا ينتهي؟”
أيامي كلها حكايات، لكن البارحة كانت حكاية مختلفة، حكاية عن الصراع مع النفس. حين وصلت إلى دوسلدورف، وأنا في طريق رحلتي المعتادة، رن هاتفي فجأة. مكالمة واحدة كانت كفيلة بتغيير وجهتي. طلب مني أحدهم أن أبدّل مساري، أن أنزل هنا بدلا من مواصلة الرحلة. ترددت للحظة، كنت افكر بالرجوع الى بيتي بدل من هذا التعب، ثم استسلمت لنداء القدر، وكأن الحياة أرادت أن تضعني أمام مرآة جديدة لأرى ما كنت أغفله.
حين دخلت القاعة، كان المشهد أشبه بلوحة مبعثرة. وجوه مألوفة وأخرى غريبة. هناك من استقبلني بحرارة صادقة، وهناك من مر بجانبي كأنني شبح، وهناك من ألقى السلام ببرود لا يخطئه الإحساس. شعرت أنني غريب في مكان كان يجب أن يكون مألوفا.
الطاولات داخل القاعة كانت خريطة صامتة للعمل الجمعوي. كل مجموعة تجلس معزولة عن الأخرى، كأن الطاولة هي سور يعزل الرؤى والأفكار. وجوه تعكس التضحية والعمل الصادق، وأخرى تخفي وراء ابتساماتها مآرب شخصية .
المصور الذي كان يتنقل بين الحضور بدا وكأنه ينتقي بعناية من تستحق عدسته، وكأن الكاميرا لا ترى إلا أصحاب المكانة والمادة. شعرت بالغصة، وأدركت أن هذا المشهد يعكس شيئا أعمق: العمل الجمعوي هنا فيه خلل ينقصه الأوفياء والجرأة .
في زاوية القاعة، وبين هذا اليأس الذي يراودني، لمحت وجها مألوفا من مدينتي. لم أكن أتوقع وجوده هنا. اقتربت منه وسألته عن كيفية العودة. نظر إلي بابتسامة صادقة وقال: “لا تقلق، ستعود معي. سيارتي تتجه إلى نفس وجهتك.” شعرت وقتها وكأن طاقة من الدفء تغمرني وسط هذا البرد العاطفي والإنساني.
وفي طريق العودة، بدأت أفكر بعمق. تذكرت كيف أصبحت السيارة عبئا ثقيلا علي. استعدت ذكرى أخي حسن الصبابي. Hassan Essabbabi ، الذي كان دائما حاضرا لإيصالي أو إرجاعي دون عذر أو تردد او خلق مبررات بل كان يثلجه حضوري في اي لقاءوحفل. كان مثال الصديق الذي يفهم التضحيات، ويخفف عنك المعاناة، عكس ما كنت أعيشه الآن من خذلان مستمر رغم كثرة السيارات عند من نعتبرهم اصدقاء اوكما يقولون ام أصدقاء مصالح !.
تذكرت الحفلة وما رأيته فيها. ليس كل بسمة تراها نقية، وليس كل من يجلس على طاولة العمل الجمعوي صادقا. كانت القاعة مرآة تعكس حقيقة هذا العالم الذي استنزفني. أدركت أن العمل الجمعوي في الغربة ليس كما يبدو، وأنه يحتاج إلى أكثر من التضحية؛ يحتاج إلى روح صلبة قادرة على تجاوز الشكوك والإحباطات ، أدركت أن العمل الجمعوي في الغرب يحتاج إلى رجال أقوياء هدفهم حقا خدمة مغاربة العالم دون تملق ولا انتهازية، أدركت كذلك انه حان الاوان أن يعوض الشباب المناضل تلك الوجوه المعروفة.
حين وصلت إلى المنزل أخيرا، أغلقت الباب خلفي، وجلست في عتمة الغرفة. شعرت بوجع داخلي أقسى من كل الآلام الجسدية. أدركت أن هذه الرحلة كانت أكثر من مجرد رحلة، كانت درسا قاسيا كما حصل في الرحلة السابقة، لكنها ضرورية لتسجيل الحضور وعدم ترك الفراغ للبعض.
همست لنفسي بصوت مكسور: “في الغربة، إن لم تكن تملك القوة والصحة والسيارة، فابتعد عن هذا العالم. هنا لا تُحترم المعاناة، ولا تُقدّر التضحيات الا من القليل القليل.”
كانت هذه نصيحة من ذاتي المرهقة، نصيحة أحتاج أن أستمع إليها، لكنني لا أملك الشجاعة للامتثال لها. تلك الشجاعة التي انتظرها بشغف لأقول للعمل الجمعوي كذلك وداعا إلى الأبد لأنني اومن ان العمل الجمعوي يجب ان يقام باتقان لينفع الناس وليس لنفع الذات وحدها !.
فهل اقول له وداعا!


تعليقات
0