بقلم الأستاذ جمال الغازي .- جريدة البديل السياسي
ضمن سلسلة الوجوه الناظورية – شخصيات ناظورية تعرفت عليها الجزء الثاني -التي تركت بصمتها العميقة في وجداني ومساري الإبداعي، يطلّ اسم الحسين القمري بكل ما يحمله من عمق إنساني وثراء ثقافي، كشجرةٍ ضاربة جذورها في الأرض، سامقة فروعها في فضاء الحلم.
عرفته لا كاسم متداول في الأوساط الأدبية فحسب، بل كإنسانٍ نبيل الموقف، صادق المبدأ، كريم العطاء، يجسّد في سلوكه ما يعبّر عنه شعرُه من قيم وعدالة وجمال.
وقد سبق أن كتبت عنه قصيدة شعرية بالريفية، كان قد استمع إليها خلال فترة مرضه، فأسعدته وأثّرت فيه بعمق.
وُلد الحسين علال بوعزة القمري سنة 1944 بمدينة الناظور، تلك المدينة التي أحبها وأحبته، فكانت فضاءه الأول وملاذه الأخير. عاش فيها معلّمًا، ومثقفًا، ومحاميًا، وشاعرا ينتمي إلى الأرض والإنسان أكثر مما ينتمي إلى الشهرة. جمع بين دفء المعلّم، ودقّة القانوني، وشفافية الشاعر، فكان واحدًا من تلك الأرواح التي يصعب أن تتكرر في زمنٍ واحد.
كان قياديا بارزا في حزب التقدم والاشتراكية، وعضوا في اللجنة المركزية للحزب، حين تعرفت عليه في مرحلة الشباب.
كانت كلمته مسموعة عند رفاق الناظور، يُستشار ويُحترم، لما كان يتحلى به من حكمة واتزان، وقدرة على الجمع بين الفكر النضالي والخلق الرفيع. كان مثال المثقف الملتزم الذي يرى في السياسة وسيلة لخدمة الإنسان، لا غاية للوجاهة أو النفوذ.
عرفتُه في لحظةٍ عصيبة من حياتي، خلال أحداث يناير 1984، حين وجدت نفسي أمام محكمة الاستئناف في الناظور. لم أكن يومها أبحث عن بطلٍ أو عن شهرة، بل عن يدٍ تمتد إليّ في زمنٍ قاسٍ.
وكانت تلك اليد يد الحسين القمري، الذي تولّى الدفاع عني بدون مقابل، مؤمنا أن العدالة رسالة لا يُتاجر بها.
. دخل القاعة بثباته المعهود، بصوته الهادئ العميق، وبدأ مرافعته كما لو كان يكتب قصيدة عن الحرية والكرامة. لم يكن يدافع عني فقط، بل عن فكرة، عن جيلٍ، وعن حق الإنسان في أن يقول ما يؤمن به دون خوف.
ذلك الموقف ظلّ محفورًا في ذاكرتي كأجمل ما يمكن أن يقدمه إنسانٌ لأخيه الإنسان. كان الحسين القمري شاعرا بالمعنى الكامل للكلمة، شاعرا في سلوكه، في لغته، في صمته، وفي نظرته للعالم.
كتب الشعر بالأمازيغية والعربية، وكان من أوائل من نقلوا الشعر الأمازيغي من فضاء الشفاهة إلى فضاء الكتابة، فأعطى للكلمة هويةً، وللهوية حضورا.
ومن دواوينه «ألف باء»، «هديل الروح»، و*«حصاد العمر»*، ظلّت قصيدته مشبعةً بالتأمل، متوهجة بالصدق، تنبض بالحكمة، وتفيض بحنين عميق إلى الإنسان البسيط، وإلى ذاكرة الريف الأولى.
أما في المسرح، فكان رائدا من رواد الريف المغربي. كتب مسرحياتٍ جسّدت التحولات الوطنية والاجتماعية، منها «رجوع الملك محمد الخامس من المنفى» و*«سفينة نوح»* التي نالت جائزة المغرب بأكادير.
كان يرى في المسرح مدرسة للمواطنة، وفي الكلمة سلاحا للنهوض بالوعي الجمعي.
لم يكن القمري مثقفا معزولا في برج من الكلمات؛ كان قريبا من الناس، من تلاميذه وزملائه وأصدقائه ورفاقه، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويحمل في جيبه قلما وفي قلبه وطنا.
انتمى إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1976، ومثّل بلده في مؤتمرات عربية من بغداد إلى الخرطوم، والتقى بزعماء ورؤساء، لكنه ظلّ كما هو: بسيطا في مظهره، عميقا في جوهره، نبيلا في كل ما يقول ويفعل. وفي أحد أيام الصيف قبل وفاته، شاءت الصدفة أن ألتقيه في مقهى التمتّع رفقة نخبة من أبناء الناظور.
تبيّن لي لاحقا أنهم كانوا متوجهين إلى مكان سيتم فيه تكريمه. اقتربت من الجمع، وبعد التحية وتقبيل رأسه، عرّفته بنفسي، فتهلّل وجهه ابتهاجا، ثم قال لي بلطف انحني قليلا حيث كان جالسا على كرسي وقد أنهكه ضعف البصر والصحة: “اقترب…
أود أن أقول لك شيئا.” قالها همسا في اذني، وما زلت إلى اليوم أحتفظ بما همس به لي، كنصيحة من حكيم هرم لفتى كان يوما من تلاميذ الحياة.
كانت كلماته تختصر مسيرة عمر من الصفاء والصدق والوفاء.
بعد ذلك بمدة، شاركت في أحد البرامج الإذاعية التي كان يُعدّها الإعلامي مصطفى البوزياني حول شخصية الحسين القمري، وكان حينها ما يزال على قيد الحياة، إلى جانب الأصدقاء الرحموني ميمون، والعمراني فخر الدين، وأستاذنا الجليل الدكتور شريق.
تحدثنا عنه بمحبة واعتزاز، لأنه لم يكن بالنسبة إلينا مجرد مبدع، بل رمزا من رموز الناظور الثقافية والسياسية والإنسانية.
كما خطونا مع بعض أبناء المدينة خطوات جادة لإنشاء مكتبة عمومية تحمل اسمه في مقر البلدية القديمة، وكان قد وعدنا، قبل رحيله، بأن يُهديها جميع مؤلفاته لتكون منارا للأجيال المقبلة.
وبعد وفاته، استقبلتني حرمه الحاجة في بيته العامر، وكانت كعادتها كريمة المضياف، تحدثنا طويلا عن المرحوم وعن مشروع المكتبة، وكان برفقتي آنذاك أخي العزيز صهره الأستاذ جمال البوشيخي. تلك الجلسة أعادت إليّ شيئا من دفء الحسين القمري، كأن صوته ما زال يتردّد في البيت، وكأن ابتسامته لم تغب بعد. وحين أسترجع تلك المرحلة من حياتي، أدرك أن لقائي بالحسين القمري لم يكن صدفة، بل كان هدية من الزمن، جاءت لتؤكد لي أن في مدينتنا رجالا يصونون المعنى قبل المصلحة، ويقفون إلى جانب الكلمة الحرة حين تشتد العواصف.
لقد علّمني القمري، من خلال موقفه الإنساني النبيل والسياسي المحنك، أن القيم لا تُدرّس في الكتب، بل تُجسّد في الأفعال، وأن الوفاء والصدق والشجاعة ليست شعارات بل سلوكا يوميا يعيشه الإنسان في صمت وكرامة.
ومنذ ذلك اليوم، ظلّ اسمه حاضرا في ذاكرتي كلما تحدّثت عن النبل أو عن الإخلاص، وكلما كتبت عن أولئك الذين جعلوا من الإنسانية مذهبا لهم. حين أستعيد اليوم ملامح أولئك الذين مرّوا في حياتي وتركوا أثرا لا يُمحى، أجد أن الحسين القمري ليس مجرد اسم في سجلّ الأدب الناظوري، بل هو ضمير ثقافي وإنساني عاش بيننا بشموخ الهدوء وصدق الكلمة. كان أحد أولئك الذين يثبتون أن الثقافة ليست ترفا، بل التزاما ومسؤولية، وأن الشعر يمكن أن يكون موقفا، كما يمكن للمحاماة أن تكون شكلا من أشكال الدفاع عن القيم قبل الأشخاص.
رحل القمري، لكن صوته ما زال يتردّد في ذاكرة المدينة، وفي قلوب من عرفوه وقرأوه.
ترك خلفه تراثا من الكلمات والمواقف، وأوراقا تنبض بالحبّ والعدل والجمال، وكأنّه أراد أن يوصي الأجيال بأن الإبداع الحقيقي هو ما يترك أثرا في الوجدان قبل أن يُخلّد في الكتب.
بهذه الشهادة التي أدوّنها اليوم، لا أودّ فقط أن أفي الرجل بعضا من حقه، بل أن أقول إنّ الوفاء جزء من الكتابة، وإنّ الاعتراف بالفضل هو أسمى أشكال النقد الأدبي. لقد كان الحسين القمري واحدا من أولئك الرجال الذين يجعلونك تؤمن أن في كل مدينة نُبلاء صامتين يصنعون التاريخ بعيدا عن الأضواء.
رحم الله الحسين القمري، الشاعر الذي كتب بالحب، والمحامي الذي ترافع بالضمير، والمناضل الذي آمن بقيم حزب التقدم والاشتراكية الصحيحة، والإنسان الذي عاش كبيرا ورحل كريما، وبقي حاضرا في الذاكرة ما بقي الحرف ينبض بالحياة.
ايها القمري انا لن انساك. جمال الغازي


 
تعليقات
0